الخدمات التى تقدم مقابل ثمن مادى، أصبحت تمثل اتجاها ينمو نموا مضطردا. وبدأ معظم المواطنين حول العالم يعانون بوضوح من نتائج الخصخصة والتعاقد من الباطن، مع سبق الولايات المتحدة لغيرها من الدول فى هذا الشأن بعدة سنوات. أما الاتجاه الآخر الذى يتطور بسرعة فى المجتمعات المتقدمة ما بعد الحداثية، هو أن تدفع مقابلا للعلاقات الإنسانية.
كنت قد قمت مؤخرا بإجراء مكالمة هاتفية مع القنصلية الأمريكية بإحدى الدول الأوروبية. اتصلت لأسأل عن تصاريح الترانزيت، لأن الحكومة الأمريكية أعلنت عن إجراءات جديدة للمسافرين الترانزيت المارين بالولايات المتحدة. واستمعت إلى رسالة مسجلة تقول: «إذا أردت معلومات من القنصلية، سيكلفك هذا 14.50 دولار أمريكى. فإذا كنت موافقا على دفع هذا المبلغ، اضغط الرقم 1 أو ضع السماعة الآن».
ولما كنت بحاجة ماسة إلى هذه المعلومة، ضغطت على الرقم 1. ورد رجل وسألنى على الفور «رقم الفيزا كارد» وقلت صباح الخير (لكن هذا كان إضاعة للوقت) ثم حاولت شرح ما أريد، لكنه قاطعنى بقوله «إنت سمعت، سيدتى، الرسالة المسجلة، أعطنى رقم الفيزا كارد الخاص بك». وامتثلت لطلبه. وتغيرت نبرة صوته على الفور وقال: «صباح الخير يا سيدتى، كيف يمكننى مساعدتك؟». وأنفقت 90 ثانية تبادلنا خلالها حوالى 300 كلمة، وحصلت على المعلومة المطلوبة. لم يضايقنى اضطرارى لدفع 14.50 دولار بقدر ما أربكنى ذلك الإجراء. وهناك مؤسسة خاصة الآن تتولى علاقة الإدارة الأمريكية بالجمهور. فإذا كنت تريد معلومة؟ أو تريد توفير الوقت؟ ادفع وستنال ما تريد. وأدركت أنه لن يمر عام أو اثنان حتى تطبق بلدان أوروبا وفى أثرها بقية بلاد العالم هذا النظام فى إداراتها المتعاملة مع الجمهور.
وهناك ممارسة أكثر إرباكا بدأت تظهر فى كل البلاد الغربية، وتهدد بأن تصبح عالمية فى القريب. فأنا أتلقى دعوات لحضور بعض المناسبات بالغة الأهمية أو للقيام برحلات: قابل السفير الأمريكى الجديد فى باريس الذى اختاره أوباما من عالم هوليوود وستحظى بفرصة الاستماع إلى حديث حصرى عن العلاقات الفرنسية الأمريكية على الغذاء. ستتمتع بميزة الجلوس بمعية هذا الرجل المثير للاهتمام، بل ويمكنك محادثته لبضع دقائق بتوجيه سؤال إليه. للتسجيل، عليك إرسال شيك بمبلغ 300 يورو إلى مس أشتون.
كما تلقيت دعوة أخرى مثيرة لرحلة لمدة 4 أيام بصحبة رجال أعمال من أوروبا للذهاب إلى الولايات المتحدة ولقاء مسئولين من كل وزارات الإدارة الجديدة، والكونجرس، والمفكرين، وتناول الغذاء بالسفارة الفرنسية بصحبة السفير الفرنسى. 4 أيام بـ4000 (أربعة آلاف) يورو بدون تذكرة الطائرة.
إنه (هناك) عالم كامل من الفرص: ادفع وستقابل كل من تتوق إلى رؤيته أيا ما كان. وإذا كنت غنيا، يمكنك مقابلة أشخاص مهمين. لا يهم إن كنت شابا ملولا وجاهلا ولا تعلم شيئا عن التاريخ أو السياسة أو معنى ما يقوله الناس ولا من أين أتوا. فإذا قدمت الشيك، تستطيع أن تذهب إلى مكان فخم وتجلس على المائدة مع المشاهير. أما إذا كنت فقيرا، وبغض النظر عن تربيتك أو دوافعك، أو إن كان هؤلاء الناس المهمون سيتمتعون بلقائك، لا يمكنك لقاءهم، لأنك لا تستطيع أن تدفع لقاء ذلك. وإذا كنت شخصا عاديا تحصل على دخل متواضع، فيمكنك الجلوس فى بيتك وتوفير نقودك، لكنك لن تحظى برؤية هؤلاء الأشخاص المهمين. وإذا كنت راغبا فى استثمار قدر من مالك فى العلاقات، فيمكنك الحصول على صحبة طيبة. لكن تأكد من أنك لا تنفق على مايثقل كاهلك!
إن العلاقات تساوى مالا. والصحبة الجيدة لها قيمتها المالية. وإذا حاولت النظر إلى هذه الفكرة من زاوية أخرى قليلا فستصل إلى ما يلى: عندما تجلس مع أحد فى نقاش، عادة ما يحدث أن تفقد اهتمامك وتشعر بالملل وتفكر حينها فى «هل كان على أن أطلب نقودا من هذا الشخص قبل أن أوافق على الجلوس معه؟». وبالطبع يمكن أن يسأل الشخص الآخر السؤال نفسه. وبينما تتحدث إلى أحدهم، تشعر بأنه كف عن الاستماع إليك، ونظر إلى ساعته، وقبل أن تطلبه مرة ثانية، ترد عليك السكرتيرة لتخبرك بأن السيد فلان سيحصل من الآن فصاعد على 200 يورو نظير لقاء لمدة ساعة، و500 يورو لتناول الغذاء، الخ. وعندها قد تسأل نفسك: هل يمكننى الذهاب إلى أى مكان دون أن أدفع مقابل التعامل الإنسانى؟ هل اللقاء المجانى هو كل ما أستحق؟ أم أننى من الأهمية بحيث يدفع لى كل من يريد لقائى؟ ومن يجب علىّ الحصول منه على نقود؟ هل يجب أن تكون رسومى محددة بقدر الاستمتاع أو الملل الذى أتوقعه؟
وأكثر ما يثير دهشتنا كمواطنين فى العالم النامى هو أن مثل هذه الممارسات لا تعتبر فضيحة أو عارا وأن هناك طلبا كبيرا عليها، وإلا لما وجدت تلك العروض من الأساس. وفى تعاملى مع الأوروبيين والأمريكيين، كنت أذكرهم دائما بأننا مختلفون. لكننى أتساءل الآن: «هل هذا فقط لأننا أبناء مجتمعات متخلفة وأن المسألة مسألة وقت قبل أن نفهم ضرورة وضع بطاقة بالأسعار على كل شىء؟ وهل القيم مجرد قائمة بالأسعار يجب وضعها على كل نشاط إنسانى؟» ففى حين لا نزال نناقش ما إذا كنا نريد الحداثة على الطريقة الغربية أم لا، علينا أن نفكر بجدية فىما إذا كنا نريد فعلا تبنى ممارسات ما بعد الحداثة أم لا.