أكثر ما يقلق المحتل والمستبد هو الإعلام حتى لو ادعى خلاف ذلك، أو تظاهر بعكس ذلك. منذ أيام احتج وزير الإعلام اللبنانى لدى عدد من وسائل الإعلام الأجنبية على اصطحاب الجيش الإسرائيلى لمراسليها لتوثيق ما يحدث من اعتداء إسرائيلى على جنوب لبنان. ماذا تنتظر من إعلامى يتابع عمليات عسكرية برية وجوية ضد بلد وهو يقف على ظهر دبابة الطرف المعتدى، ويستمع إلى روايته، ويلتقط الصور ويسجل الفيديوهات المخطط لها من جانبه؟ ألم ترَ وسائل الإعلام الغربية، التى يميل بعضها إلى الانحياز الصارخ لإسرائيل فى حربها على غزة ولبنان، أن هناك ما يقرب من مائة إعلامى وأطقم إعلامية استهدفتهم إسرائيل منذ 7 أكتوبر 2023، وهى تعرف من هم، وأين يقيمون مثلما حدث فى حصبايا جنوب لبنان منذ أيام؟ المسألة باختصار، ودون تحليل مستفيض، أن إسرائيل، دولة احتلال، لا تريد توثيق جرائمها، ولذلك لا تكتفى بقصف الأقلام، ولكن أيضا تقبض أرواح الإعلاميين. وحسب الإحصاءات المنشورة، فإن الإعلاميين الذين قتلوا واستهدفوا فى حربى غزة ولبنان أكثر من أقرانهم الذين تعرضوا لمصير مشابه فى الحربين العالميتين الأولى والثانية، بل وفى أى صراع شهده العالم منذ النصف الثانى من القرن العشرين وحتى الآن.
الانحياز ليس فقط فى الشرق الأوسط، لكنه فى قلب أوروبا فى أوكرانيا. فمن يتابع وسائل الإعلام الغربية من ناحية، ووسائل الإعلام الروسية من ناحية أخرى يصل إلى اقتناع أن ما يجرى منذ أكثر من عامين حربان وليست حربًا واحدة. والسبب هو تلوين الأحداث، والحقائق، وربط الوقائع بطريقة تنتج وجهة نظر معينة يُراد أن تصل للمتلقى.
منذ أيام كنت أستعيد «حادثة دنشواى»، التى أعدم فيها عدد من الفلاحين المصريين الأبرياء بعد محاكمة ظالمة لأن أحد ضباط الاحتلال البريطانى كان يصطاد حمام فى قريتهم، وعندما طاردوه سقط صريع ضربة شمس. ليس هذا فحسب، بل قتلوا فلاحًا سعى لنجدته. اللافت، أن اللورد كرومر، المعتمد البريطانى آنذاك، كان يسيطر على الصحف، وسعى إلى أن تكون الرواية المنشورة عن الحادثة تحمل بصمته. هناك تناسخ فى فكر الاحتلال الذى يريد دائما تزييف الحقائق.
هذا هو إعلام الاحتلال والاستبداد، وأكاد أجزم أن كل محتل هو مستبد، هناك من يحتل الأوطان، ويهدم البيوت، ويقتل الناس، ويدمر المستشفيات والمدارس ودور العبادة، وهناك من يهيمن على مقدرات الدول، ويوجهها لخدمة مصالح ضيقة، ويمعن فى الفساد.