قرار بالفرح مع سبق الإصرار - هدى زكريا - بوابة الشروق
الثلاثاء 11 نوفمبر 2025 2:34 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

من يفوز بالسوبر المصري؟

قرار بالفرح مع سبق الإصرار

نشر فى : الأربعاء 30 سبتمبر 2009 - 9:51 ص | آخر تحديث : الأربعاء 30 سبتمبر 2009 - 9:51 ص

 أعتذر لأجهزة الإعلام والفضائيات العربية والغربية التى لم تكن تقصد عندما رصدت حادثة تحرير الصيادين المصريين من أسر القراصنة الصوماليين أن تثير فى نفوسنا كل هذا الشعور العارم بالفرح والابتهاج الجمعى، فقد فعلها الصيادون الأبطال، وردوا إلى البطولة قيمتها الغائبة فى دهاليز وتقاطعات المفاوضة، وأثبتوا دون خطب عصماء ولا دهاء سياسى ولا حتى تعليم جامعى فى أرقى الجامعات أن الحرية الغالية يمكن أن تسترد فى أحلك الظروف وأشدها صعوبة.

بل وأن السحر يمكن أن ينقلب على الساحر، عندما قاموا قومة رجل واحد ليس فقط لتحرير أنفسهم، وإنما أيضا لكسر شوكة القرصنة التى قويت واستعظمت بفعل التخطيط الإجرامى للخاطفين واستسلام قباطنة وبحارة السفن العملاقة التى كان أصحابها وحكوماتهم يسرعون بدفع الفدية مهما عظمت لتحرير رجالهم.

وكانت دهشة المجتمع الدولى بالغة وهو يفاجأ بسيناريو مخالف تماما لما اعتاده فى هذه الظروف، وذلك عندما ذاق القراصنة لأول مرة منذ بدأوا نشاطهم الإجرامى مرارة الأسر والخوف من المصير المجهول، ولم تكن هناك كاميرا لتسجل التطورات المثيرة ولا معلقون ليصرخوا بقلوب واجفة من النشوة عند تسجيل (الجول) الذى يهز خشبة الخصوم، ولا الموسيقى التصويرية الصاخبة التى تضاعف من تأثير الحدث فى سينما العنف.. وإنما هو المحيط وأمواجه والسماء التى راقبت شجاعة رجال مصر البسطاء الذين كانت يد الله فوق أيديهم.

ولكن لأن البطل كان صيادا مكتوب عليه أن يولد ويعيش ويموت فى الهامش الاجتماعى والثقافى والاقتصادى والسياسى لمجتمعه، ولأن الصياد يعيش حياته القاسية فى «يوم واحد طويل «تتشابه لحظاته الطويلة فلا تتاح له فرصة تغيير يومه إلى غد أفضل، فقد صارت أهم فضائله القناعة والرضا بما يدفع به البحر إليه من الرزق القليل، هذا إن لم تنتاب الأمواج حالات الجنون التى لا تكتفى فيها إلا بابتلاع القرابين من الصيادين الذين تعجز مراكبهم البدائية عن مقاومة الرياح العاتية.

ولم تجد المجتمعات الإنسانية سبيلا إلى إنصاف هؤلاء البسطاء إلا فى الحواديت والحكايات، فصار الصياد بطلا شجاعا ووسيما، إن لم تقع فى غرامه عروس البحر وتغرقه بعطاياها، فسوف تقع عليه عين الأميرة التى ترفض الزواج من جميع الأمراء والسلاطين، ليصبح الصياد فارسها ومعالجها ومرضها العضال، وبعد المقاومة والممانعة من والدها الملك يكتشف الأخير بدوره أن الصياد الفقير هو الأرفع مقاما والأعلى قدرا، وهو الوحيد الجدير بابنته.

صحيح أن الحواديت والأساطير قد أنصفت الصيادين ورفعتهم من قاع الحياة إلى عليين، إلا أن الحدوتة الحقيقية، الذى صاغ صيادونا من تفاصيلها المرعبة بطولة، يندر تكرارها ويحسدهم عليها «جيمس بوند ورامبو»، وهى تفوق ما صاغته سيناريوهات السينما الأمريكية من خيال كتابها الذين ضن عليهم الواقع الفعلى ببطولات القضايا النبيلة التى تدفع من يتبناها بصدق إلى التضحية والفداء فى سبيل القضية، لذا سعوا إلى خلق أبطال خارقين وهميين لمحاربة طواحين الهواء أو لتشويه صور النضال الفعلى للشعوب التى تظهر فى صورة الإرهابيين المتعطشين للعنف والدم.

والسؤال هنا هو: لماذا بدأت مقالى بالاعتذار عن قرارى بالفرح مع سبق الإصرار؟

والإجابة أننى لاحظت «حالة من التواطؤ غير المعلن» التى مارسها إعلام شرير غاظه أن يكتشف أن الله سبحانه قد «وضع سره فى أضعف خلقه» فصاروا الأقوى والأعظم، فى وقت تروج فيه الفضائيات لنجوم بلاستيكية خالية من الروح على جميع المستويات..فالمتحدثون فى معظم الأحوال ينطبق عليهم قول الأبنودى «ربنا رازقه بجهل غانيه عن كل العلم»، والقدوة هم لاعبو كرة القدم الذين يصاب بعض أفراد جمهورهم «الديماجوجى» بالسكتة القلبية إذا حادت الكرة عن هز شبكة الخصم، ويمنحهم الإعلام ساعات طويلة ببذخ يصل إلى حد السفه ليتحدثوا عن نشأتهم وأحلامهم وأصول اللعبة. وهم فى النادر يجيدون الحديث وهم غير مطالبين بذلك فى الحقيقة. أما المتحشرجين من المطربين الذين يعاقبنا الله بغنائهم الممجوج وكلماتهم المتردية فقد صاروا مثلا يحتذى من شبابنا، الذى يفسد ذوقه ويفقد قدرته على الإبداع فى ظل صعود الغث ثم الغث..

ويبدو أن الله قد أتاح لهؤلاء الصيادين الأبطال النجاة من التأثر السلبى بمشاهدة برامج التليفزيون فنجا بفطرتهم السليمة من التشوه والعبث والتشكل بما يرضى المهيمنين على وسائل الإعلام، كما أنهم ودون قصد قد أفلتوا من نظمنا التعليمية الهادمة لملامح الشخصية المصرية والتى تستبعد عامدة المعرفة الواعية والقدرة على الإبداع والفعل.

والصيادون يمارسون مهنة تقوم فى أساسها على التعاون وتقسيم العمل وحب الحياة وتخلو من الفردية والأنانية اللتين صارتا من معالم العديد من المهن التى تقوم على التنافس غير الشريف وتهدف للاحتكار. ومن ثم احتفظوا بعناصر ضميرهم «الجمعى» نقية صلبة، وبالجهاز «المناعى» للكرامة والرأس المرفوع، ولذا فإنهم يواجهون الخطر بشجاعة فطرية وبتلقائية وبشعور جارف بالمسئولية، الذى يميز الشخصية المصرية منذ حمل أجداد هؤلاء الصيادين مسئولية الدفاع عن «الحضارة الإنسانية» دون ضجة ودون أن يطالبوا البشرية بثمن.

ولكنه من الواضح أن العار الذى ركب الذين دفعوا الفدية للقراصنة من معظم دول العالم دون مقاومة قد هالهم أن تسجل مصر «انتصارا شعبيا» بيد رجال «برج البرلس»، فقرروا عقاب الأبطال بالصمت فى الداخل والخارج على السواء واستبدلوا هتاف: محلاك يا مصرى وانت عا الدفة والنصرة عاملة فى البلد زفة..بإعلان عن لاعبى الكرة يقول: «علشان تعرفوهم..روحوا شجعوهم!».

التعليقات