أُعلن فجأة، دون أى مقدمات أو حتى مجرد بوادر، توقيع ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان ورئيس وزراء باكستان محمد شهباز شريف، فى 17 سبتمبر 2025 فى العاصمة السعودية الرياض، على اتفاقية الدفاع الاستراتيجى المشترك بين كل من السعودية وباكستان. وقد تم التوقيع مباشرة عقب القمة العربية الإسلامية التى عقدت فى قطر يومى 15 و16 سبتمبر 2025، لبحث العدوان الإسرائيلى على قطر بهدف قتل وفد حماس فى مفاوضات وقف الحرب الإسرائيلية على غزة والمقيم فى قطر، وبحث تطورات القضية الفلسطينية والاعتراف بالدولة الفلسطينية.
وقد تبادر إلى أذهان كثيرين أن توقيع هذه الاتفاقية رد فعل مباشر لاعتداء إسرائيل على سيادة قطر دون أى تحرك أمريكى لمنعه، وهذا صحيح من حيث توقيت توقيع الاتفاقية. أما عملية التفاوض بين السعودية وباكستان للتوصل إلى اتفاقية دفاع استراتيجى مشترك تشمل كل النواحى العسكرية، فقد تمت على مدى سنوات فى إطار العلاقات الوثيقة بين البلدين منذ استقلال باكستان عام 1947. ويرجح أن تكون السعودية اتجهت إلى تعزيز التعاون العسكرى والأمنى القائم بينها وباكستان خلال زيارة ولى العهد الأمير محمد بن سلمان إلى إسلام أباد فى عام 2019، ووقع معها اتفاقات استثمارية فى عدة مجالات بنحو ٢٠ مليار دولار أمريكى، وهو العام الذى شهد اعتداءات على السعودية ومنشآتها البترولية قيل وقتئذ أنها قد تكون من الحوثيين فى اليمن بدعم إيرانى، ودون أن تتصدى لها القوات الأمريكية الموجودة فى القواعد العسكرية الأمريكية فى السعودية وغيرها من دول الخليج العربية، كما تعرضت الإمارات لاعتداءات دون دفاع أو رد أمريكى. وبدأت تساور السعودية وبعض دول الخليج العربية حالة من عدم الاطمئنان على الاعتماد الكبير على الحماية العسكرية الأمريكية والغربية، وأبدت السعودية اهتمامًا بإمكانيات التعاون العسكرى مع كل من الصين وروسيا خلال لقاءات القمة والزيارات المتبادلة بينهم، لكن الأمر لم يتخط مذكرات التفاهم دون الانتقال إلى مرحلة توقيع اتفاقيات تعاون عسكرى أو أمنى.
• • •
ساهمت عدة عوامل فى اتجاه السعودية إلى توقيع اتفاقية الدفاع الاستراتيجى المشترك مع باكستان، من بينها وجود تعاون عسكرى بينهما منذ سنوات سواء فى التدريبات أو المناورات البرية والبحرية والجوية المشتركة، ودرجة التقدم الصناعى والتكنولوجى لدى باكستان فى مجال صناعة الأسلحة التقليدية والصواريخ طويلة المدى لنحو 2700 كيلومتر ومجهزة لحمل أسلحة نووية أخذًا فى الاعتبار التقدم الذى أحرزته باكستان فى صناعة الأسلحة النووية. كما أن باكستان ليست من الدول الكبرى المنافسة للولايات المتحدة الأمريكية مثل الصين وروسيا، ومن ثم فإن رد الفعل الأمريكى لن يكون قويًا ولن ترى واشنطن أن الاتفاقية تمثل بديلًا عن وجودها العسكرى فى السعودية، على الأقل فى المدى القصير والمتوسط، وإنما هو تنويع فى ضمانات الأمن للسعودية من دولة صديقة لها.
لم يتح الاطلاع على النص الكامل للاتفاقية، باستثناء ما جاء عنها فى بيان سعودى وتصريحات لمسئولين من الجانبين السعودى والباكستانى، من أن الاتفاقية تنص على أن أى اعتداء على أى من البلدين (السعودية وباكستان) هو اعتداء على كليهما. وأن الاتفاقية لا تستهدف أى طرف بعينه، وإنما تعزز قوة الردع وتوازن القوى فى المنطقة، وأنها اتفاقية دفاعية فى الأساس. وأن الاتفاقية توحد الصف السعودى الباكستانى فى مواجهة المعتدى دائمًا وأبدًا. كما أنها تعيد صياغة معادلة الردع فى الشرق الأوسط من خلال إضفاء الطابع الرسمى على التحالف بين السعودية وباكستان الدولة الإسلامية النووية التى تمتلك نحو 170 رأسًا حربيًا نوويًا.
وقد اعتمدت السعودية تاريخيًا على مظلة الأمن الأمريكى فى المنطقة وأن هذا لم يعد كافيًا، وأن الأحداث المتكررة، خلال العقد الماضى، أوضحت ذلك، وأن ما لدى باكستان من صواريخ يوسع مدى الردع السعودى ضد أى اعتداء أيًا كان. ويرى الخبراء السعوديون أن الاتفاقية تشمل جميع الوسائل العسكرية، التقليدية والنووية.
أكد الطرفان - السعودى والباكستانى - أن الاتفاقية ليست موجهة ضد أحد بعينه، وإنما بمثابة ردع وليس تهديد. وأن السعودية تتمتع بتقنية متقدمة، وترسانة أسلحة تقليدية، وبنية تحتية متطورة، أما باكستان فهى دولة نووية ذات قوة عسكرية ضاربة، وبنية تحتية متقدمة، وقوة بشرية كبيرة. وأن تعاون القوة الاقتصادية والمالية السعودية مع الخبرات التكنولوجية والقوة العسكرية الباكستانية، يعزز كثيرًا من قوتهما المشتركة ويفتح آفاقًا جديدة لمزيد من التعاون بينهما، سواء فى المجال العسكرى التقليدى أو فى المجال النووى، خاصة أن السعودية تسعى منذ فترة إلى أن تكون لديها مفاعلات نووية للأغراض السلمية لتكتسب الخبرة النووية من ناحية، وتطوير الطاقة النووية لمرحلة ما بعد الطاقة التقليدية من البترول والغاز من ناحية أخرى.
• • •
كان العدوان الإسرائيلى على قطر بمثابة ضربة قوية للمصداقية الأمريكية ووجود قواعدها العسكرية الكبيرة فى دول الخليج العربية، والتى تكلف الدول المضيفة لها مبالغ طائلة، وأصبحت موضع تساؤل بعد العدوان الإسرائيلى الذى تعاونت معه وقدم لإسرائيل كل المعلومات والتسهيلات لتقوم بعدوانها بدلًا من أن تمنعها وفقًا لاتفاق وجود هذه القواعد العسكرية التى أصبح وجودها عبئًا وخطرًا فى ذات الوقت. ومن ثم كان لا بد من البحث عن مخرج وحليف موثوق يسهم فى تحقيق الأمن والأمان، دون أن يكون بديلًا للوجود الأمريكى حاليًا أو فى المستقبل المنظور. كما أن العدوان الإسرائيلى على قطر أسقط إدعاء إسرائيل بأنها راغبة وعلى استعداد للتعاون مع دول الخليج العربية فى تأمينها مما ادعت أنه الخطر الإيرانى على هذه الدول.
إن اتفاقية الدفاع الاستراتيجى المشترك بين السعودية وباكستان قد تفتح المجال لانضمام دول خليجية عربية أخرى للاتفاقية، خاصة أن سياسة الإدارة الأمريكية الحالية برئاسة ترامب تتسم بعدم اليقين وتميل نحو الاستغلال للملاءة المالية لهذه الدول أكثر من رغبة حقيقية للتعاون فى كل المجالات، وفى مقدمتها التعاون العسكرى والأمنى. ويركز الموقف الأمريكى على دول الخليج العربية على أنها سوق لصناعة الأسلحة التقليدية الأمريكية ومصدرًا لتمويل الاستثمار داخل الولايات المتحدة الأمريكية فى ظل أزمتها الاقتصادية المستحكمة. كما ثبت بالدليل القاطع بالعدوان الإسرائيلى على قطر أن واشنطن تعطى إسرائيل الأولوية على كل الدول العربية وترى فيها أنها حليفها الوحيد فى الشرق الأوسط. وقد أعلن الجانب الباكستانى أن الاتفاقية ليست مغلقة بل متاحة لانضمام آخرين مستقبلًا.
أشارت التحليلات والتعليقات الأمريكية إلى أن الصين لها تعاون عسكرى وثيق مع باكستان فى مجال صناعة الأسلحة والصواريخ والطائرات الحربية، وأنه ثبتت كفاءة وجدارة هذا التعاون فى الاشتباكات الأخيرة بين الهند وباكستان وتفوق السلاح الجوى للأخيرة، وأنه قد تمثل الاتفاقية السعودية الباكستانية مدخلًا خلفيًا غير مباشر للصين، خاصة أنه سبق أن أشارت خلال القمة الصينية السعودية الأخيرة إلى استعدادها للتعاون فى مجال صناعة الأسلحة مع السعودية.
• • •
كما أن من الأبعاد المهمة للاتفاقية السعودية الباكستانية، العلاقات الهندية الباكستانية التى تتسم دائمًا بالتوتر واحتمالات التصعيد لدرجة الاشتباكات العسكرية. فإذا حدثت مستقبلًا اشتباكات عسكرية هندية باكستانية تبدأها الهند، فهل فى هذه الحالة يتعين على السعودية أن تدعم وتشارك باكستان فى دفاعها تطبيقًا لنص الاتفاقية من أن أى عدوان على أحد طرفيها يعد عدوانًا عليهما معًا أم أن هذا المبدأ ينصب ويطبق فى حالات الحرب وليس المناوشات أو الاشتباكات العسكرية؟ وهل ستكون للاتفاقية آثار سلبية على العلاقات السعودية الهندية، باعتبار أن السعودية أصبحت أكثر تحيزًا بتحالفها الموثق مع باكستان أم أن المصالح الاقتصادية والتجارية والجالية الهندية فى السعودية ستغلب اعتبارات هذه المصالح وأن يكون لكل حادث حديث فى المستقبل؟
أما بالنسبة لإسرائيل، فلا شك أن الاتفاقية السعودية الباكستانية تفرض عليها مراجعة لسياساتها تجاه دول الخليج العربية وإدخال باكستان فى دائرة اهتماماتها الأمنية. فإذا كانت إسرائيل والدول الغربية تشن حملات مستمرة وفرض عقوبات أو التهديد بفرضها على إيران لمجرد احتمال أن تتجه يومًا إلى إنتاج أسلحة نووية، رغم توقيع إيران على اتفاقية منع انتشار الأسلحة النووية وخضوع مفاعلاتها لرقابة الوكالة الدولية للطاقة الذرية، فماذا ستفعل إسرائيل وقد تم تحالف موثق بين باكستان، وهى دولة لديها أسلحة نووية وصواريخ قادرة على حملها، والسعودية، أكبر دول مجلس التعاون الخليجى؟ إن الاتفاقية لا شك فى أنها تربك حسابات إسرائيل.
إن اتفاقية الدفاع الاستراتيجى المشترك بين السعودية وباكستان تعد نقطة تحول فى توازنات القوى الإقليمية فى منطقة الشرق الأوسط، وبداية لتغيرات محتملة فى التحالفات فى المنطقة، ولكنها ليست فى الوقت الحالى والمستقبل القريب بديلًا للوجود العسكرى الأمريكى أو التحالفات الأمريكية مع دول الخليج العربية، وإن كانت تفتح المجال لمزيد من التغيرات والتحالفات الجديدة فى إطار ما تشهده المنطقة من متغيرات وتنافس بين القوى الإقليمية والدولية.