أنتمى إلى جيل عرف الحدائق والشواطئ العامة وهى مفتوحة بلا تذاكر ولا كافيهات ولا مطاعم ولا أسوار؛ لذلك لا أجد متعة فى مصايف هذه الأيام التى يجلس فيها كل مواطن يراقب من حوله أو يبحث عن التصنيف الطبقى له بحسب (الكيو آر كود) وحيث السهر فى الليك يارد أهم من النسيم.
رغم نجاحى بفضل الفضول فى اختراق الساحل الشرير، إلا أننى ما زلت أفضل كورنيش الإسكندرية القديم وأحنّ لوقفة أمام بير مسعود والتلصص على شواطئ نادى السيارات ثم السباحة فى ميامى أو سيدى بشر حيث كان البحر محاطا بالأمل وفى رعاية النوارس بينما لم يعد الأمر كذلك الآن.
أرجو ألا يحدثنى أحد عن التطوير ولا عن جدوى الاستثمار فبفضلهما معا انتهت أسطورة الإسكندرية وأصبحت مدينة مفتوحة على أوجاع لا أول لها ولا آخر.
كنت أظن أننى قد تحررت من الحنين لولا زيارة قمت بها إلى المملكة المغربية وفيها تجولت فى أكثر من مدينة بحرية وشاهدت كيف تجذب هذه المدن مئات المشروعات الاستثمارية الناجحة لكن من دون تفريط فى شخصيتها أو المساس بذاكرة المكان وتاريخه لتذهب به إلى المستقبل الغامض.
رغم تدفق ملايين السياح سنويا إلا أن شواطئ المغرب ومدنها التاريخية لا تزال بخير تنتقل إلى الأجيال الجديدة بشكل مرن يوائم بين الاحتفاظ بالقديم والانفتاح على الجديد.
يراعى التحديث المعمارى فى المغرب جملة من الأمور، لعل أهمها تعزيز العلاقة مع الماضى للحفاظ على الهوية البصرية لتلك المدن التى تزدهر ببياضها أو ألوان جدرانها لتبدو أمام الرائى مثل كتاب لأوراق ملونة.
يفهم المغاربة أن الهوية مفهوم شامل ومتجذر فى الحياة اليومية لذلك ثمة إصرار فى الحفاظ على الزى الشعبى دون مخاصمة الحداثة أو التطوير.
وأهم من ذلك وقبل كل ذلك فإن خطط التطوير أو الاستثمار لا تمس حق المواطن العادى فى الاستمتاع بالمساحات العمومية، إذ لا تزال غالبية الشواطئ متاحة أمام الناس بالمجان، كما أن الحدائق كلها مفتوحة ومصانة بشكل مذهل يثير المآسى على المساحات العامة فى مصر كلها؛ حيث يصعب العثور على مكان جميل مفتوح للناس بلا رسوم أو خطط تطوير تعبث بهويته.
وفى المقابل يشعر المواطن بمسئوليته تجاه المنشآت العامة فلا يفسدها بأى شىء يمكن أن يعطل جمالها أو يوقف نموه.
أقف على جدران قصر الثقافة فى مدينة أصيلة بالمغرب وأشاهد الصور التى التقطها مؤسس مهرجان أصيلة الدكتور محمد بن عيسى قبل ٥٠ عاما وأتأمل كيف أن المدينة لم تفقد شيئا من ذاكرتها وما تغير بفعل السنوات متعلق أكثر باختلاف الوسيط فالأبيض والأسود أصبح ملونا، بينما ظل المكان صامدا مستجيبا لتحدى الترميم، لذلك تولد ذاكرة جديدة تنتمى للمكان والوقت فى آنٍ واحد ولا تفرط فيهما لأنها تعرف أن الماضى هو إرثها الذى لا يجوز العبث معه.
والشاهد أن مدينة أصيلة التى تطورت بنسبة مائة بالمائة لم تنكر ماضيها القديم كقرية للصيادين. بل لا تزال حريصة على هذا الماضى وتنمى الصلة معه.
ومثلها تفعل مدينة العرائش القريبة منها فهى ترمم مقابرها وتفتح آفاقا للتعاون الدولى مع مؤسسات معنية بالتراث فى جميع أشكالها وتحصل منها على أموال تغطى نفقات التمويل لأن هناك من يدرك أن الماضى ليس ندبة أو سبة علينا أن نكافحها أو نتخلص منها.
تحتاج تجربة المغرب إلى أن تُدرس جيدا لأن من يقف خلفها يدرك قيمة الماضى بوصفه الرصيد الحى الذى لا ينتهى.