«يوميات من غزة».. طبيبة أوروبية توثق جراح الأطفال النفسية - خالد أبو بكر - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 سبتمبر 2025 8:43 م القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

برأيك.. هل تنجح خطة الـ21 بندًا لترامب في إنهاء حرب غزة؟

«يوميات من غزة».. طبيبة أوروبية توثق جراح الأطفال النفسية

نشر فى : الثلاثاء 30 سبتمبر 2025 - 7:20 م | آخر تحديث : الثلاثاء 30 سبتمبر 2025 - 7:20 م

السياسة الدولية منذ نحو عامين ترقص على أشلاء الأطفال فى غزة، وتشيح بوجهها عن أنينهم، كما لو أنّ دموعهم محض ضوضاء عابرة فى مشهد صاخب. لكن هناك أصواتا غربية تقاوم هذا الصمم، منها شهادة الأخصائية فى علاج الصدمات النفسية للأطفال، الألمانية - النرويجية كاترين جيلاتس بروباك، التى تحوّلت إلى كتاب بالغ الأهمية صدر مؤخرًا بالألمانية عن دار Westend فى فرانكفورت بعنوان Tagebuch aus Gaza (يوميات من غزة)، فى 224 صفحة توثّق أربعين يومًا من الحياة والموت تحت القصف، بين أغسطس وسبتمبر 2024.
الكتاب ليس رواية ولا دراسة أكاديمية، بل يوميات ميدانية كتبتها المؤلفة أثناء عملها فى مستشفى ناصر بخان يونس ضمن بعثة أطباء بلا حدود. تبدأ الصفحات من لحظة مغادرتها بيتها فى تروندهايم، النرويج، وهى تكتب رسائل وداع لأولادها خشية ألا تعود، ثم تسجل يومًا بيوم ما عاشته من 8 أغسطس حتى 9 سبتمبر 2024، قبل أن تعود لاحقًا لتكتب خاتمة مؤرخة فى يوليو 2025 بعنوان دال: الخوف، العجز، الحزن. هذا البناء الزمنى يمنح النص صدقًا استثنائيًا، حيث لا تكتب المؤلفة عن الحرب بأثر رجعى، بل من قلبها النابض.
• • •
منذ السطور الأولى تصدم القارئ بجملة تصلح أن تُنقش على ضمير العالم: «لقد سمعتُ صوت الحرب، ليس على هيئة انفجارات قنابل، بل فى صيحات الخوف الصارخة لأطفال مصدومين… صيحات تجسّد كل آلام غزة». هنا يكمن جوهر الكتاب: الحرب ليست فقط فى الخرائط والمعارك، بل فى نفسية الأطفال الذين يفقدون النوم والقدرة على الكلام، أو الذين ينهارون فى نوبات فزع لا تنتهى.
اللافت أنّ كاترين لا تتحدث فقط بوصفها شاهدة محايدة، بل تنقل أيضًا التصدع الداخلى الذى أصابها. ففى حوارها مع صحيفة دير شتاندرد النمساوية، تقول: «أريد أن أستطيع أن أبكى على غزة، فإذا لم نبكِ على غزة، فعلى ماذا سنبكى إذن؟». هذه العبارة ليست انفعالًا عابرًا، بل إعلان عن عجز سيدة ذات ضمير أمام مأساة بهذا الحجم.
الكتاب موزع على تواريخ لا على عناوين فصول، ما يمنحه صدقًا إضافيًا: كل يوم هو جرح قائم بذاته. من وصف صرخات الأطفال، إلى مشاهد زملاء فلسطينيين يواصلون عملهم رغم فقدان بيوتهم أو أقاربهم، إلى لحظات نادرة من اللعب والضحك تشعّ كشرارة أمل وسط الركام. هناك أيضًا شهادات لزميلات محليات، إحداهن تقول: «لقد أصبحنا جميعًا أجسادًا فارغة بأرواح محطمة». جملة تختصر الانهيار النفسى الذى يتهدد مجتمعًا بكامله.
• • •
كاترين حرصت على حماية خصوصية من قابلتهم؛ غيّرت أسماء معظم الأطفال وأسرهم، باستثناء حالتين حصلت فيهما على إذن مكتوب. ومع ذلك، بقيت القصص مفعمة بالصدق والوقع الإنسانى.
نحن أمام حكايات عن أطفال فقدوا أطرافهم، وآخرين فقدوا القدرة على النوم، وأسرٍ تتبنى أبناء غيرها بعدما تيتموا. وتشير المؤلفة إلى أنّ أكثر من 40% من العائلات باتت ترعى أطفالًا ليسوا أبناءها. إنها مأساة، لكنها أيضًا برهان على أن إنسانية غزة لم تمت.
يوميات من غزة ليس كتابًا عن الموت وحده، بل عن الحياة المعلّقة بالخيط الأخير من التضامن. كاترين تصف كيف أنّ زملاءها كانوا يتقاسمون الطعام القليل مع مرضاهم، وكيف أنّ ضحكة طفل واحدة كانت كافية لتبقى الفريق الطبى صامدًا.
فى المقابل، لا تخفى غضبها من عالم يتعامى. تقول فى حديثها الصحفى: «الأطفال لا يموتون لأن الطعام غير موجود، بل لأن الطعام على بُعد ثلاثة كيلومترات ولا يُسمح له بالمرور». هذه الجملة تضع المأساة فى إطارها الحقيقى: حصار ممنهج، لا كارثة طبيعية.
الكتاب، على بساطة لغته وأسلوبه المباشر، يُعد وثيقة نادرة فى الأدب الإنسانى المعاصر. فهو يجمع بين الحساسية النفسية الدقيقة لمتخصصة فى علاج الصدمات، وبين صدق الشاهد الذى عاش الخطر ولم يكتب عنه من وراء مكتب. ومن هنا تكمن قيمته الكبرى: إنه ليس رواية تضيف طبقة من الخيال، ولا تقريرًا سياسيًا جافًا، بل شهادة إنسانية لا يمكن للعالم أن يواصل تجاهلها.
• • •
فى الختام، يمكن القول إن «يوميات من غزة»: نداء صريح إلى القارئ الأوروبى والعالمى: لا تدّعوا أنكم لم تعرفوا. فهذه الصفحات، الممهورة بدموع الأطفال وصمود ذويهم، تسجل الحقيقة يومًا بيوم. تجاهلها يعنى ببساطة المشاركة فى الصمت العالمى.

التعليقات