(واقعة التنكيت فى غزوة الصناديق) - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الأربعاء 8 مايو 2024 5:16 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

(واقعة التنكيت فى غزوة الصناديق)

نشر فى : الخميس 31 مارس 2011 - 9:43 ص | آخر تحديث : الخميس 31 مارس 2011 - 9:43 ص

 لم أصدق نفسى للوهلة الأولى عندما سمعت أن شيخا ذائع الصيت من شيوخ الإسلام قد سمّى الموافقة على التعديلات الدستورية فى الاستفتاء الأخير «بغزوة الصناديق». ولا أدرى لماذا قفز إلى ذهنى بالذات عندما استمعت إلى هذا التعبير وصف أسامة بن لادن لأحداث الحادى عشر من سبتمبر2001 بأنها «غزوة مانهاتن». لم أصدق نفسى بالفعل إلى أن شاهدت بالمصادفة المحضة شريطا مصورا لما قاله الشيخ أذاعه أحد البرامج التليفزيونية اللامعة، التى حققت نجاحا جماهيريا لافتا. وعلى الرغم من أن الموضوع قد تم تناوله لاحقا فى العديد من الكتابات الصحفية الرصينة وعلى شاشات التليفزيون فإن ما يثيره من أبعاد خطيرة يبرر تأكيد الحديث عنه مع التركيز على تلك الجوانب التى لم تنل حظها من الاهتمام.

نبدأ بما قاله الشيخ فى شريط فيديو شديد الوضوح تعليقا على نتائج الاستفتاء. اعتبر الشيخ ما حدث انتصارا للدين، وهو يقول مخاطبا من قالوا لا: «مش انتم قلتم الصناديق تقول؟ مش دى الديمقراطية بتاعتكم؟ الشعب يقول عايز إيه؟ أهو الشعب بيقول نعم للدين. صح؟ خلاص هى نعم للدين.. واللى يقول خلاص بلد ما نعرفش نعيش فيها إنت حر، يعنى عندهم تأشيرات كندا وأمريكا هما حرين. لكن البلد.. الشعب.. إنتم ديمقراطيتكم بتقول.. الشعب عايز دين. ادى له دين، واحنا بتوع الدين». وبعد هذا الشرح «لانتصار الإسلام» كان من المنطقى أن يدعو الشيخ المصلين إلى ترديد تكبيرة العيد مرتين احتفالا بانتصار الإسلام كما هتف المستعمون فى إجابتهم عن سؤال للشيخ فى سؤال عن هوية المنتصر. ولمن لم يشاهد هذا الشريط أقول إن الشيخ مد ذراعه بطوله إلى الخلف، وهو يقول «عندهم تأشيرات كندا وأمريكا». ولقد كان وقع العبارة التى تحرم ربع المجتمع من حق المواطنة إن أراد ممارسة الحق فى الاختلاف شديد القسوة، ناهيكم عن أن الواقعة المختلف عليها بالغة الضآلة سياسيا ولا علاقة لها بالدين من قريب أو بعيد.

أحسن المفكر الإسلامى البارز محمد سليم العوا صنعا عندما وصف هذا الكلام بأنه باطل ولا يليق، ووصف تبرير صاحبه له بأنه كلام سخيف، وهو ما يستدعى إلى الذهن عددا من الملاحظات يجب تسليط الضوء عليها لكى نعرف إلى أين يمكن أن يذهب بنا أمثال هذا الشيخ. يلاحظ أولا أن نغمة «الإقصاء» تتخلل كلامه من أوله لآخره، فهو يتحدث عن الذين قالوا نعم للتعديلات الدستورية باعتبارهم «نحن»، بينما يتحدث عنا ــ باعتبارى ضمن الأقلية التى قالت لا ــ باعتبارهم «هم» (مش دى الديمقراطية بتاعتكم)، ولذلك لم يكن غريبا أن يدعونا نحن الذين نقف فى معسكر «لا» إلى مغادرة الوطن، وعلى الرغم من أن الرجل للأمانة لم يخصص، إلا أن موضوع «انتصار الإسلام» والحصول على تأشيرات كندا وأمريكا بالذات بدا موجها إلى الجماعة القبطية بصفة خاصة، وبعد ذلك يقولون لهم لماذا أنتم قلقون؟ ويلاحظ ثانيا الخلط القائم بين الدين والسياسة، فمعركة التعديلات الدستورية كانت معركة حول الإسلام، ولذلك فإن الانتصار فيها يعنى أن الإسلام هو الذى انتصر.

هكذا يدخلنا الشيخ فى وهم صنعه هو ورفاقه، فعندما أحسوا بقوة معسكر الرافضين للتعديلات الدستورية، أو لنقل على الأقل أنهم بسبب حرصهم المبالغ فيه على إقرار تلك التعديلات لسبب نعلمه جميعا، ركزوا فى دعايتهم السياسية على أن إقرار التعديلات حماية للهوية الإسلامية لمصر فى إشارة للمادة الثانية، التى تنص على أن مبادئ الشريعة الإسلامية هى المصدر الرئيسى للتشريع، مع أن أمرها لم يكن مطروحا من قريب أو بعيد، لكن البسطاء صدقوهم، وأصبحت التعديلات فى وعى هؤلاء انتصارا للإسلام، ومن هنا حديث الغزوة وتكبيرة النصر، أى أن الشيخ ورفاقه صنعوا الوهم وصدقوه وبنوا عليه مواقفهم الخطيرة التى سبقت الإشارة إليها. والمشكلة المحملة بنذر الخطر أن هذا النموذج يمكن أن يتكرر فى الانتخابات البرلمانية والرئاسية والاستفتاء على دستور جديد، إذ يكفى أن تجد علاقة بين هذا المرشح أو ذاك أو بين هذه الفكرة أو تلك وبين الدين حتى يمكنك بناء ما تشاء من أوهام عليها لابد، وأنها سوف تؤثر على جموع البسطاء.

وعندما شعر الشيخ بفداحة ردود الأفعال السلبية التى أفضت إليها كلماته السابقة لم يعتذر عنها، ولكنه وصفها بأنها «نكتة» سببها البهجة بنتائج الاستفتاء، وهو عذر أقبح من ذنب، لأنه إذا كان «التنكيت» يحدث عندما ينتصر الإسلام فى قضية شديدة الجزئية لا علاقة له بها، فماذا سيفعل الرجل عندما «يبتهج» بوصول «الإسلاميين» للسلطة مثلا؟ وماذا سيقول بمفهوم المخالفة إذا هزموا لاحقا فى انتخابات أخرى؟
والواقع أن إمعان النظر فى تصريحاته السابقة يشير إلى أن «غزوة الصناديق» هى الأكثر تعبيرا عن فكره من واقعة «التنكيت». فملابس العصر من الجاهلية (أتراه يعرف كيف كانت الملابس فى صدر الإسلام؟)، وحلق اللحية دونه قطع الرقاب، والديمقراطية (التى ابتهج كثيرا بواحدة من نتائجها) مخالفة للنهج السلفى، والمصايف ومصافحة النساء ومشاهدة التليفزيون طبعا حرام، وتهنئة غير المسلمين بأعيادهم حرام وكفر، والمعاملات التجارية معهم تعاون على الكفر.

لا أدرى من أين جاء الشيخ بهذه الأحكام بينما يزخر القرآن الكريم بكل ما هو سمح فى وصف المسيحيين ومدى قربهم من المسلمين ومودتهم لهم، والخطورة أنه من الواضح أن للشيخ أنصارا تضيق بهم المساجد، ومن هنا جاء التصوير «المهنى المحترف» لتعليقه أو «لتنكيته» حتى يتم توزيع هذه الشرائط على أوسع نطاق ممكن بين الجماهير من البسطاء الذين يصدقون حقا أن هذه هى كلمة الإسلام فى كل ما سبق. وفى عهد جديد نتمنى فيه أن نكون قادرين على بناء نظام ديمقراطى حقيقى لا يمكن أن يواجه هذا الفكر بالقمع، وإنما تواجه الفكرة بالفكرة، وهذه هى المسئولية العاجلة للإعلام المصرى، وبصفة خاصة محطات التليفزيون، التى تستطيع مخاطبة المواطنين البسطاء، الذين لا يجيدون القراءة إلى الحد الذى يمكنهم من قراءة ما يكتبه أمثالنا فى الصحف، كما أنها مسئولية أيضا لوزارة الثقافة التى يتعين عليها أن تبذل جهدا تنويريا خارقا، ووزارتى التعليم والتعليم العالى اللتين يتعين عليهما كذلك التضافر من أجل بناء منظومة جديدة من القيم التنويرية فى مناهج التعليم، وهى مهمة بالغة المشقة، لكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة.

تزداد الأهمية المحورية لمواجهة هذه الأفكار المغلوطة فى زمن تبدو الدولة غائبة فيه، فهى لا تبذل أى جهد فى منع استخدام الدين فى الدعاية السياسية، أو فى بناء منظومة القيم المطلوبة فى مواجهة الخراب الذى حل بنا، أو حتى فى الدفاع عن هيبتها إزاء من يقيمون الحدود بأيديهم على مواطن قبطى شكوا فى سلوكه، أو يقررون هدم كنيسة «والاعتصام» فى أنقاضها حتى لا تعود كما كانت وإنما تتحول إلى مسجد يؤدى المسلمون شعائرهم فيه، وإذا كان المجلس العسكرى الأعلى قد قام بمواجهة هذه الواقعة تحديدا فإن منطق «المصالحات العرفية»، وليس سيادة القانون على الجميع ما زال هو السائد فى التعامل مع هذه الأحداث.

لنتضافر جميعا إذن من أجل حماية الوطن من التداعيات المأساوية للنكات السخيفة، التى يصر البعض على أن ينشرها بيننا باسم الدين وفى ظل راياته السمحة.

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية