أفرط فى إضفاء صفات «العصرية» و«الحداثة» و«المؤسسية» على الدولة التى يترأسها، بينما المشهد المصرى المحتقن ينذر بنزع العصرية والحداثة عن الدولة وتقويض مؤسساتها.
فى ثنايا العبارات أزمة مستحكمة تحاصره استحقاقاتها، فشرعيته تتآكل ومستوى الأداء يثير تساؤلات ومخاوف على مستقبل البلد كله.. وصورته تتعرض لانتقادات حادة فى «الميديا الغربية» ومراكز صناعة القرار فى بلادها.
الإفراط بذاته فيه أزمة مصداقية، فلا أحد يكرر المعنى نفسه بصياغات مختلفة على امتداد خطابه إن لم تكن لديه أزمة يحاول أن ينفيها أو رسالة يحاول أن يوجهها.
بدت الإطنابات الرئاسية عن الدولة «العصرية» رسالة مباشرة إلى الغرب بعد أن تكثفت سحب الشكوك حول نظام حكمه.. المخاوف فى مصر والتطمينات للغرب!
أزمته سبقته إلى منبر «المجلس النيابى»، فهناك فارق بين الحقائق وانتحالها، وخطبته أمام «مجلس الشورى» انتحلت قاعة «مجلس الشعب» الذى حلته «المحكمة الدستورية».
يدرك هو نفسه أن انتحال القاعات لا يصنع شرعيات، فـ«الشورى» مطعون عليه أمام «الدستورية» التى غل يدها من النظر فى دعاوى أمامها. الأفدح أن الدكتور «محمد مرسى» استبق إعلان نتائج الاستفتاء على الدستور بـ(٤٨) ساعة بتعيين (٩٠) عضوا فيه. الرقم يساوى نسبة الثلث من أعضاء «الشورى» وفقا لنص فى الإعلان الدستورى الصادر فى مارس (٢٠١١)، بينما النص الدستورى الجديد ينص على نسبة «العُشر». هذا بذاته تحايل على الدستور، وفيه قلة احترام لنصوصه، التى وصفها هو نفسه بـ«الإنجاز التاريخى».
افتقرت خطبته الأولى من على منبر برلمانى إلى رؤية يتبناها أو فلسفة تقوده.. أرقامه خالفت حقائقها داعية إلى انتقاده بفداحة من جهات اقتصادية متعددة منها «البنك المركزى»!
عندما تفتقد الأرقام صدقيتها فإن قدرتها على الإقناع تتبدد والشكوك تتزاحم. حاول أن يؤكد أن الوضع الاقتصادى «مطمئن» لكنه سلك الطريق الخطأ، وأخذ يردد أرقاما تفتقد إلى الصدقية، نفى أن يكون الاقتصاد على شفا الإفلاس فى المدى القريب، وهذه حقيقة يؤكدها الاقتصاديون، لكن الطريقة التى اقترب بها من الملف المقلق تدعو بذاتها إلى القلق، فما هو مستبعد الآن فى مدى قريب قد تداهمنا أخطاره تاليا بتداعيات افتقاد القدرة والخبرة على إدارة الأزمة المتفاقمة.
معالجة الأزمة الاقتصادية فى المساجلات السياسية جرت فى اتجاهين متناقضين.. أولهما إطلاق تصريحات رسمية تقول إن الاقتصاد المصرى تجاوز حد الخطر، وأنه مهدد على المدى القريب بالإفلاس.. وثانيهما خفض مستوى الذعر العام الذى انتقل بطبائع الأمور إلى سوق المال بإطلاق تصريحات تخفض من حجم الخطر وتنفى أن مصر داخلة إلى إفلاس تقترب مواعيده.
الاتجاه الأول تبدت فيه محاولة لتحميل المعارضة مسئولية الاضطراب السياسى الذى أفضى إلى تعميق الأزمة بمخاطرها الماثلة على حياة المواطن المصرى ومستقبله.. والاتجاه الثانى انطوت فيه نزعة تُحمل المعارضة المسئولية ذاتها باعتبار أن الاضطرابات تعرقل عودة الاقتصاد إلى عافيته فى أقرب وقت ممكن.
فى الاتجاهين، إعفاء للرئاسة والجماعة والحكومة من مسئوليتها عن الاضطراب السياسى والفشل الاقتصادى معا. سياسة «الأرض المحروقة» التى تضع المعارضة أمام الأمر الواقع باستمرار تفضى إلى اضطرابات تعمق من الأزمة الاقتصادية وتدفعها إلى منحدراتها، وما تحتاجه مصر الآن فى أوضاعها الاقتصادية الصعبة «هدنة سياسية». الجماعة تطلبها لكن على أرضية مشروع تمكينها، وهذا النوع من التفكير لا يسحب من السياسة ألغامها الماثلة ولا يوفر للاقتصاد مناخه اللازم.
مشكلة خطاب الدكتور «مرسى» أنه تجاوز المخاطر المحدقة إلى الامنيات المحلقة، وقفز فوق الأزمة الاقتصادية بأرقام مشكوك فى صحتها على أقل تقدير وعبارات مطعون فى جديتها عن نهضة تقترب!
هناك ثلاثة مؤشرات خطيرة على التدهور الفادح فى الاقتصاد المصرى. الأول، انخفاض قيمة الجنيه أمام العملات الأجنبية، وفى تقدير المدرسة المصرفية العتيدة فإن خفض قيمة الجنيه بـ(١٪) فى ظل حجم الواردات الحالى الذى يصل إلى نحو (٦٠) مليار دولار سنويا يكلف البلد (٣) مليارات جنيه على الأقل يدفع فواتيرها المواطن العادى.
وعلى ما كان يقول الدكتور «كمال الجنزورى» رئيس الحكومة السابق فإنه «عندما تنزل قيمة الجنيه لا ترتفع بعد ذلك أبدا».
الثانى، تراجع احتياطيات النقد الأجنبى. وهذه مسألة تدفع لحالة انكشاف اقتصادى تحت ضغط تصاعد حجم الدين الداخلى والخارجى معا، وتقرير البنك المركزى لآخر شهر يشير إلى أن الدين العام يكاد يلتهم الناتج المحلى الإجمالى.
والثالث، انخفاض التصنيف الإئتمانى، وهذه مسألة ترفع قيمة الفوائد على القروض التى تتلقاها الدولة وبنوكها.
المؤشرات الثلاثة لا تفضى بالضرورة إلى إفلاس على ما جرى فى اليونان، لكنها تومئ إلى أوضاع صعبة لا يجوز التعاطى معها بقفزة فى الهواء تتحدث عن مشروعات عملاقة جديدة!
تفاؤل «مرسى» يجئ فى التوقيت الخطأ وبالأرقام الخطأ وبالرؤية الخطأ لأزمة تتفاقم. فالسياحة مثالا تشهد عند أعياد العام الميلادى تدهورا كبيرا فى مستوى إشغالات الفنادق والقرى السياحية فى أسوان والأقصر والغردقة وشرم الشيخ.. ولم تتجاوز نسبة الحجوزات (٣٠٪). الرقم بذاته يفند الكلام الرئاسى عن تحسن الوضع السياحى ويشكك فى قدرة الحكم على مواجهة الأزمة وتداعياتها الخطيرة.
أحال «مرسى» إدارة الأزمة إلى حكومة تقتضى الأصول استقالتها بعد إقرار الدستور الجديد، وهى حكومة لا تتسق قدراتها مع التحديات التى تواجهها، فقيرة فى كوادرها وفى قدرتها على الإقناع بأن هناك حكومة تلم بملفاتها ولديها تصور لمواجهة التحديات. أراد الدكتور «محمد مرسى» هنا إبعاد شبح «خيرت الشاطر» رجل الجماعة القوى عن أن يشاركه السلطة العليا بالصلاحيات الدستورية الجديدة لرئيس الحكومة، أو أن يسند رئاستها إلى شخصية وطنية أكثر مقدرة وكفاءة على بناء ائتلاف وطنى واسع.
بدا أمامه أن خيار الدكتور «هشام قنديل» هو الأنسب وإن لم يكن الأفضل، الأريح وإن لم يكن الأقدر على مواجهة أزمة اقتصادية وسياسية عاصفة.
احتذى دون أن يقصد التقاليد الملكية قبل ثورة (٢٣) يوليو، فالملك فى «خطبة العرش» يكلف حكومته بما يراه من أولويات والحكومة تتحمل المسئولية.. بينما هو «رئيس تنفيذى» تتجمع عنده كل السلطات والصلاحيات والحكومة مجرد سكرتارية على النحو الذى كان يجرى أيام «مبارك».
فى كلامه عن الحوار حضرت الدعوة وغابت الجدية. الأزمة السياسية تراوح مكانها وتتفاقم مخاطرها بينما هو يكتفى بالقول إن: «مصر لكل المصريين والحرية لأبناء الشعب بلا استثناء»، و«أن مصر لا يبنيها تيار واحد».. وهذه مسألة يغيب عنها تلازم الفعل مع القول وتتناقض فيها التصرفات مع التعهدات.
فالدعوة الرئاسية إلى الانضمام إلى «الحوار الوطنى» تبدو كفرقعات ألعاب نارية على شاطئ النيل ذات عيد، لا جدول أعمال له، ولا التزام بما يسفر عنه، وإذا كان «مرسى» قد حصر هذه المرة موضوع «الحوار الوطنى» فى «قانون الانتخابات النيابية»، فما معنى الذهاب إلى حوار ترعاه الرئاسة إذا كان موضوعه قانون ينظر مشروعه «مجلس الشوريى» الذى تسيطر عليه جماعة الإخوان المسلمين؟.
الأجدى أن يكون الحوار مع الجماعة لا الرئاسة، والمشكلة هنا أن الجماعة سوف تبالغ فى حرصها على أن تأتى تفاصيل القانون لمصلحتها الانتخابية المباشرة.. وفكرة نقل التشريع من الرئاسة لـ«الشورى» لشهرين أو أكثر قليلا هدفها تخفيف الضغط على الرئيس باتهامه أنه ينحاز إلى جماعته التى ينتسب إليها على حساب الدولة التى يؤتمن عليها، فالطرف الذى ينحاز إليه أصبح هو صاحب القرار فى صياغة القانون الانتخابى.
الكلام الرئاسى حول ضرورة مشاركة «المعارضة» فى مشاورات القانون أقرب إلى الاستهلاك المحلى والدولى لا إلى اعتبارات «التكاتف» و«الوفاق» و«المصالحة» و«الحوار» التى تردد صداها فى جنبات البرلمان، ربما يعود السبب الحقيقى فى استقالة الدكتور «محمد محسوب» وزير الدولة للشئون القانونية والنيابية إنه تحسب من أثر مشروعات قوانين تنتقص من الحريات العامة، الإعلامية على الخصوص، على سمعته السياسية والقانونية، أو أن يجد نفسه مضطرا أن يحمل هذه القوانين المعيبة إلى «الشورى» مسوغ عدوانها على الحريات!
استقالة «محسوب» فيها إشارة لا تخفى عن توجهات ترتب فى مشروعات قوانين. فجوات عدم الاتساق تتسع وكلام الرئيس عن «تعزيز سلطان القضاء وضمان استقلاله» و«صيانة الإعلام الحر» يناقضه الصدام مع القضاء والتحرش بالإعلام الحر، فالأول، اعتدى عليه كما لم يحدث فى التاريخ الحديث كله، والثانى، تصاعدت ضده التهديدات وحملات الترويع.
الرئاسة فى الحالة الأولى طرف مباشر وفى الحالة الثانية غضت الطرف عن التهديدات مكتفية بالإشارة من حين إلى آخر إلى «الإعلام المضلل».
فى التناقض ما بين التعهدات والتصرفات تتبدى ظلال الانتقادات الغربية فى نص الخطاب الرئاسى.
الأزمة المصرية المتفاقمة تدعوه لطمأنة الغرب دون أن يكون جادا فى إطنابات «الدولة العصرية»!