لئن صح وصف عام 2018 الذي يستعد للرحيل بأنه "عام الحزن على مدى التاريخ المديد لجائزة نوبل للآداب" فإن هذا العام ذاته الذي يستعد للرحيل قد أظهر إخفاق المحاولات لتدشين "جائزة بديلة" ليؤشر على أن المطلوب إصلاح الخلل الجسيم في جائزة نوبل الأدبية وليس نفيها من حيز الوجود.
وكان قرار الأكاديمية السويدية بحجب جائزة نوبل في الآداب لعام 2018 وتأجيل اختيار الفائز بحيث يعلن اسمه في العام المقبل أثار حالة من الصدمة بين المثقفين على مستوى العالم، فيما تردد السؤال الصادم وسط دوي سلسلة من الفضائح مؤخرا: "هل باتت أم الجوائز الأدبية في مهب الريح"؟!
وإذا كانت جائزة نوبل للآدب حُجبت من قبل سبع مرات فإن ذلك كان لأسباب قاهرة وغيوم المشهد العالمي في سياق الحربين العالميتين الأولى والثانية، أما في هذا العام الذي يستعد للرحيل فإنها المرة الأولى التي تحجب فيها هذه الجائزة لاتهامات بالفساد تنال من الثقة في الجائزة ذاتها ومصداقيتها وسمعتها كأهم جائزة أدبية في العالم.
وسعيًا لترميم "صورة جائزة نوبل للآداب التي عصفت بها سلسلة من الفضائح والتجاوزات" كانت الأكاديمية السويدية أعلنت في شهر نوفمبر الماضي عن إضافة خمسة أعضاء من الشخصيات الأدبية بصورة مؤقتة للجنة المانحة لهذه الجائزة والتي ستبدأ في طرح اقتراحاتها اعتبارا من نهاية شهر يناير المقبل، فيما من المقرر أن يشهد شهر أكتوبر القادم الإعلان عن فائزين بجائزتين إحداهما للعام الحالي والأخرى لعام 2019.
وكانت الروائية ماريس كونديه وهي من منطقة "جزر جوادلوب" الواقعة في البحر الكاريبي والخاضعة للسيادة الفرنسية، فازت في شهر أكتوبر الماضي بجائزة "الأكاديمية الجديدة للآداب" التي بادر بتشكيلها هذا العام نحو 100 شخصية ثقافية سويدية كرد فعل غاضب على عواصف الفضائح التي هبت على الأكاديمية السويدية واضطرتها لحجب جائزة نوبل للآداب فيما يحلو للبعض وصف جائزة هذه الأكاديمية الجديدة بـ"جائزة نوبل البديلة للآداب".
ومع أن "الأكاديمية الجديدة للآداب في السويد" أشادت في حيثيات منح جائزتها لماريس كونديه بأعمالها الأدبية معتبرة أنها "تصف ويلات الاستعمار وفوضى ما بعد الاستعمار بلغة دقيقة وقوية" فإنه قد يصح القول إن "المقارنة ظالمة بين الاهتمام الإعلامي والثقافي الكبير الذي يحظى به الفائز بجائزة نوبل للآداب على مستوى العالم والرواج غير العادي لإبداعاته فور تتويجه بهذه الجائزة، وبين ذلك الاهتمام الشاحب للغاية والمحدود حقا في مختلف الوسائط الإعلامية والمنابر الثقافية بشأن ما يسمى بجائزة نوبل البديلة التي ابتدعتها شخصيات ثقافية سويدية هذا العام".
وتلك المقارنة تكشف بوضوح عن فشل المحاولات لتدشين جائزة أدبية بديلة لجائزة نوبل للآداب حتى وإن كانت خلافا لأغلب الأفرع الأخرى لجوائز نوبل تثير الكثير من الجدل والضجيج منذ أن منحت لأول مرة عام 1901 للشاعر الفرنسي رينيه سولى برودوم، الذى كانت شهرته محدودة بالمقارنة مع الروائى الروسى العملاق تولستوى، الذى ضلت الجائزة طريقها إليه حتى وفاته عام 1910.
وبين عامي 1901 و2017 بلغ عدد الفائزين بجائزة نوبل في الآداب 114 أديبا من بينهم المصري نجيب محفوظ، الذي يعد حتى الآن أول وآخر أديب عربي يفوز بأهم جائزة أدبية عالمية فازت بها أسماء مضيئة في عالم الإبداع، مثل الكولومبي جابرييل جارسي ماركيز وآرنست هيمنجواي وتوني موريسون.
وإذا كانت مسألة إعادة بناء الثقة واستعادة المصداقية والشفافية لجائزة نوبل للآداب مطلوبة فسيكون من قبيل التزيد محاولة التقليل من أهمية هذه الجائزة التي غابت هذا العام وتوصف بأنها "أم الجوائز الأدبية في العالم" وها هو الكاتب الصحفي اللبناني سمير عطاالله يعيد للأذهان أنها تعد مفخرة للأمم والمدن التي أنجبت أدباء فازوا بها.
ففي سياق استنكاره لمظاهر التخريب التي شهدتها باريس أثناء الاحتجاجات الأخيرة ضد قرار زيادة الضرائب على الوقود أو التي عرفت بـ"مظاهرات السترات الصفراء" قال سمير عطاالله في زاويته بجريدة الشرق الأوسط التي تصدر بالعربية من لندن: "ينسى الفرنسيون أن باريس ليست مدينتهم وحدهم، ومن مدينة الآداب والفنون هذه حصد الفرنسيون في القرن الماضي جائزة نوبل للآداب 12 مرة متفوقين بذلك على جميع شعوب العالم".
وفيما وصف وزير الثقافة الأسبق والأكاديمي والناقد الدكتور جابر عصفور، فوز الأديب المصري نجيب محفوظ بجائزة نوبل للآداب في عام 1988 بـ"المفاجأة المفرحة" فإن الأمل أن يتوقف "قطار نوبل للآداب مجددا أمام أدباء مصريين وعرب آخرين وبعضهم تردد اسمه دوما ضمن المرشحين للجائزة في تكهنات الأعوام الماضية مثل الشاعر والكاتب سوري الأصل على أحمد سعيد، الشهير بأدونيس".
والطريف أن بعض الفائزين بجوائز نوبل في فئات أخرى لا يشوبها الجدل الذي يقترن بالجائزة المخصصة للآداب كانوا من أصحاب المواهب في فن الحكي مثل العالم الأمريكي الراحل ريتشارد فاينمان الحاصل على جائزة نوبل في الفيزياء عام 1965، والذي عرف بقدرته الفذة كأستاذ جامعي في شرح أعقد المسائل العلمية في هذا التخصص لطلابه بأسلوب قصصي.
وإذ تبارت الصحف ووسائل الإعلام هذا العام في الحديث عن اتهامات بالفساد المالي والتحرش وتسريب أسماء الفائزين قبل الإعلان رسميا عن فوزها وصراعات على النفوذ بين أعضاء الأكاديمية السويدية فإن أزمة الجائزة التي توصف بـ"أم الجوائز الأدبية العالمية" تبدو ذات "طابع تاريخي وبنيوي" أعمق من اتهامات يرددها البعض في قصص الإثارة الصحفية أو العناوين الفضائحية.
فهذه الجائزة الأدبية العالمية يشوبها الغموض منذ بداياتها وهو غموض يمتد حتى على مستوى وصية مانحها الفريد نوبل و"المفهوم الذي كان يقصده عندما تحدث عن منحها لأعمال بارزة في الاتجاه المثالي" ومن المعروف أن كل الوثائق الخاصة بالمداولات حول اختيار الفائزين بجوائز نوبل تبقى طي الكتمان ولا يسمح بنشرها إلا بعد مرور 50 عاما عليها.
وقد يكون الأرشيف السري لجائزة نوبل حافلا بأسرار مثيرة حقا للفضول، فيما كشفت تسريبات من "الأرشيف السري" لجائزة مان بوكر، التي توصف بأنها أهم جائزة أدبية للأدب المكتوب بالإنجليزية والتي احتفلت هذا العام بيوبيلها الذهبي وتعد "بوابة هامة للطريق إلى نوبل للآداب"، عن وقائع صادمة حقا.
فجائزة مان بوكر التي فازت بها هذا العام الأديبة الأيرلندية آنا بيرنز تعرضت بدورها لعواصف في عام 2018 عندما كشف المدير الأسبق للجائزة "مارتن جولف" النقاب عن أن الفائز في عام 1976، وهو الكاتب دافيد ستوري، قد حصل عليها "عن طريق الاقتراع برمي عملة معدنية بعد فشل المحكمين في الاتفاق على مرشح واحد".
كما واجهت لجنة تحكيم جائزة مان بوكر موقفا عصيبا في عام 1977 عندما هدد أحد المحكمين في اللجنة المانحة للجائزة بقية الأعضاء ورئيس اللجنة وهو الشاعر فيليب لاركين "بالقفز من النافذة" إذا لم تفز رواية بعينها بهذه الجائزة عامئذ!
وقبل ذلك -كما كشفت التسريبات-كانت إليزابيث هوارد، عضو لجنة تحكيم جائزة مان بوكر في عام 1974، ضغطت بشراسة على بقية أعضاء اللجنة لتمرير رواية كتبها زوجها كينجسلي أميس إلى القائمة القصيرة للجائزة التي توصف بأنها الأهم للأدب المكتوب بالإنجليزية، فيما انفجرت أزمة نوبل للآداب هذا العام بعد أن استقال ثلاثة أعضاء من الأكاديمية السويدية وسط أجواء فضائح تحرش كان المتهم فيها مصور صحفي وناشر يدعى جان كلود آرنو، وهو زوج عضوة الأكاديمية كاتارينا فروستينسون.
ورغم كل الجدل حول كواليس وآليات التحكيم لجائزة مان بوكر فإنها باتفاق جمهرة النقاد نجحت في تقديم الكثير والكثير من الروايات المدهشة لمبدعين يكتبون بالإنجليزية، وهي جائزة لا يمكن الاستغناء عنها في الأدب المكتوب بالإنجليزية مثلما لا يمكن الاستغناء عن جائزة نوبل للآداب بطابعها العالمي.
وهكذا جرت العادة أنه عندما يفوز أديب بجائزة نوبل للآداب، لابد أن تشهد مبيعات كتبه قفزة إن لم تكن طفرة على مستوى العالم حتى لو كان معروفا في بلاده وتترجم أعماله أكثر وأكثر لمزيد من اللغات، ومن ثم فإن حجب جائزة نوبل للآداب هذا العام بمثابة "صدمة" للناشرين الذين يترقبون كل عام اسم الفائز استعدادا لطبع أعماله وتحقيق مبيعات عالية وأرباح كبيرة.
وفي العام الماضي أثار تتويج كازو إيشيجورو بجائزة نوبل في الآداب حالة عامة من الارتياح بين الأوساط الأدبية في العالم، فيما بدت فضيلة "التواضع" ظاهرة في شخصية الأديب النوبلي الأخير الذي تجاوز الـ62 عاما ودخل مضمار الإبداع الأدبي منذ نحو 36 عاما.
وإذا كان الراحل العظيم و"هرم الرواية المصرية والعربية" نجيب محفوظ، رأى أن المفكر المصري عباس محمود العقاد كان يستحق جائزة نوبل، فإن العقاد ذاته سبق وأن شكك فى صواب ودقة المعايير التى تمنح بموجبها هذه الجائزة، معتبرا أن بعض الأدباء الذين لم يفوزوا بها أكثر أهمية وقيمة من أسماء حصلت عليها.
وفيما رفض الساخر الأيرلندى العظيم برنارد شو جائزة نوبل للآدب بازدراء ووصفها بأنها "جائزة سيئة السمعة" معتبرا أنها أشبه بطوق نجاة يلقى لشخص بعد أن وصل بالفعل للشاطئ، فإن المفكر والأديب الفرنسي الراحل جان بول سارتر رفض قبول جائزة نوبل في الأدب بعد إعلان فوزه بها معتبرا أن أي جائزة حتى لو كانت جائزة نوبل تعكس حكم الآخرين وتعني تحويل الفائز بها إلى مجرد "شيء بدلا من كونه ذاتا إنسانية" وهو ما يتناقض مع فلسفته الوجودية التي اشتهر بها في العالم كله.
أما فوز الموسيقي الأمريكي بوب ديلان بجائزة نوبل في الآداب في عام 2016 فقد اعتبره نقاد ثقافيون بمثابة نقلة نوعية خطيرة تتجاوز بكثير ما كان يقال في السابق حول منتدى جمع ما بين الطالح والصالح وبين عمالقة مثل طاغور وويليام بتلر ييتس وجابرييل ماركيز ونجيب محفوظ وآخرين يمكن وصفهم بالمغمورين مثل الشاعر السويدي الراحل توماس ترانسترومر، الذي فاز بهذه الجائزة عام 2011 ليثير فوزه الكثير من عواصف الغضب في الغرب الثقافي.
وفي السنوات الأخيرة كانت الصحافة ووسائل الإعلام فى الغرب تحفل بآراء تؤكد أن هناك أخطاء فظيعة وخللا خطيرا فى جائزة نوبل للأدب بصورة تبرر بقوة التساؤل عن مدى صحة قرارات الأكاديمية السويدية بشأن منح هذه الجائزة لأديب ما، بينما وضعت أزمة العام الحالي الأعضاء الـ18 للأكاديمية تحت مجهر البحث والتشريح.
وإذا كانت جائزة نوبل للأدب منذ بدايتها غامضة في المعايير وقابلة لتأويلات مثيرة للحيرة فإن ما حدث في عام 2016 عندما منحت لبوب ديلان حولها إلى "أمثولة للغموض وشفرات المعاني وإشارات اللغة السرية التي لن تكشف إلا بعد نصف قرن من إعلان منح جائزة نوبل في الآداب لهذا الفنان الأمريكي".
وعامئذ كانت أم الجوائز الأدبية العالمية تشهد "نقلة نوعية خطيرة" حدت بالبعض للقول إن للأدباء أن يبحثوا عن جائزة لهم غير جائزة نوبل للآداب! وبعيدا عن أي إجحاف لقيمة بوب ديلان كمبدع كبير في دنيا النغم وعالم الأغنية فإن القضية لم تكن تتعلق بموهبته في مجاله الغنائي والموسيقي وإنما تنصب على مدى أحقيته بنيل الجائزة الكبرى المخصصة للآداب، فهو "موسيقي غنائي عظيم، لكن هل يمكن القول إنه أديب عظيم"؟!
وحتى في الصحافة الأمريكية كان هناك من طرح علامات استفهام وتعجب بعد الإعلان عن فوز الأمريكي بوب ديلان بجائزة نوبل للآداب، فيما رأت آنا نورث أنه يستحق بلا جدال العديد من جوائز جرامي الموسيقية المرموقة في الولايات المتحدة، والتي نالها على مدى مسيرته الغنائية، إنما الجدل كله يدور حول مدى استحقاقه لأم الجوائز الأدبية العالمية.
ولا ريب أن لجنة جائزة نوبل للآداب أحبطت الكثير من الآدباء بمنحها الجائزة في ذاك العام لهذا الفنان الأمريكي الذي رأى كثير من المعلقين في الصحافة الغربية أنه لا يمكن وصفه بـ"الكاتب الكبير"، كما أنه ليس "بالشاعر العظيم".
ومن هنا تكاثرت غيوم الشكوك وتوالدت أسراب الأسئلة حول مستقبل جائزة نوبل للآداب بعد أن تزايدت مفارقات الأكاديمية السويدية فيما كان مثقفون في السويد يضغطون لحجب الثقة عن كل أعضاء الأكاديمية السويدية التي تمنح الجائزة.
وعام 2018 وإن كان "العام الحزين لجائزة نوبل للآداب" فهو أيضا ينتهي بفرصة "لإصلاح الخلل البنيوي في أم الجوائز الأدبية" واستعادة الثقة بتبني إجراءات تتسم بمزيد من الشفافية. نعم، الليل لم ينتصف بعد وهناك فرصة لإنقاذ الجائزة التي ما زالت تداعب أذهان نجوم الإبداع العالمي في الرواية والقصة والشعر. فهل تكون الأكاديمية السويدية على مستوى التحدي؟! الإجابة في عام 2019.