نبيل نعوم يكتب: السكر في العصا - بوابة الشروق
السبت 19 يوليه 2025 7:10 ص القاهرة

الأكثر قراءة

قد يعجبك أيضا

شارك برأيك

ما هي توقعاتك لمصير وسام أبو علي في المرحلة المقبلة؟

نبيل نعوم يكتب: السكر في العصا

نبيل نعوم
نبيل نعوم

نشر في: الجمعة 18 يوليه 2025 - 8:29 م | آخر تحديث: الجمعة 18 يوليه 2025 - 8:29 م

بعد مولد الطفل، ستضرب الجدة سبع مرات الهون النحاسي بجوار أذن المولود، ليدوي الصوت الحاد العالي كجرس كنيسة عملاق داخل بهو من الحديد الصلب. ستهزه أيضًا داخل غربال واسع وسترجه رجًا، وكأن الأرض تزلزلت من تحته. ستضع في يده الرقيقة سبع حبات من القمح وستدعو له بالرخاء.

وعلى مائدة في الركن، ستوجد جرة من الفخار تحمل سبع شمعات مقادة منذ الليلة السابقة، وكل شمعة قد سُميت بأحد الأسماء المختارة للطفل. وبالاسم المرادف لأكثر الشموع اشتعالًا سيسمونه أهله، سائلين له طول العمر. وأخيرًا ستنصحه جدته بسماع كلام أبيه وأمه ومعلمه، وستكرر النصح، وخاصة فيما يتعلق بالمعلم.

هذا الصوت المدوي بجوار أذن المولود، يقولون إنه سيحميه في مستقبله من الخوف من الأصوات العالية والضجة. أي سيعده للسباحة في بحر البشر الذين يملؤون الشوارع المزدحمة، أو في الأسواق التي يصعب اختراقها، أو في المقاهي ذات مكبرات الصوت الصارخة، أو في الشقق المتجاورة والبيوت المتلاصقة.

يقولون إن هذا الصوت سيحميه مستقبلًا ضد الضوضاء كدرع من الرصاص، وسيمنحه إمكانية السكينة والهدوء وسط هدير الأصوات المتنافرة، بل وأيضًا سيمنحه ملكة التمييز بين دبيب نملة وسقوط إبرة وسط أي ميدان تتبارى فيه السيارات بالكلاكسات حتى وهي واقفة.

وكما يفصل الفلاح بالغربال بين الحبوب والقش، يقولون إنهم بهز الطفل ينزعون منه الغس، ويبعدون عنه تحايلات الشيطان، ويحمونه من الجن. وأيضًا بهذا الرج يدربونه على تحمل الهزات العنيفة من أول الركوب على حمار شقي، أو جمل عاق، أو جاموسة حرون، إلى السفر بطائرة قد تتعرض لمطبات الهواء.

وحبات القمح السبعة، كأنهم بوضعها في يده، يحيون طقسًا عتيقًا حين كان المصريون القدماء يصنعون شكلًا للإله أوزيريس ويغطونه بالطين، ويزرعونه بالقمح لينبت في الربيع رمزًا لخلوده واحتفالًا باستمرار الحياة.

أما النصيحة الهامة التي ستكررها الجدة، ومن خلفها أفراد العائلة بعد تسميته بالاسم الذي باركته السماء واختارته من بين الأسماء الأخرى، فهي نصيحة سماع كلام الوالدين، ولكن أيضًا وبالدرجة الأولى، سماع كلام المعلم.

المعلم الذي تطورت مهمته من معلم الكتاتيب إلى الأستاذ بالمدارس، والدكتور بالمعاهد والجامعات. من المعلم الذي ما زالت صورته باقية في الأذهان حتى بعد انتشار دور العلم، والذي كان يُحفظ الأطفال القرآن والكتابة والقراءة عن ظهر قلب، واختلف أجره باختلاف المحافظات، فتنوع بين خبز وسمك وأرز في الدلتا وبالقرب من البحر والبحيرات، إلى خبز وذرة وعسل أسود في بعض نواحي الصعيد.

وهناك، بالقرب من مزارع القصب الواسعة في مصر العليا، حيث تمتد عيدان قصب السكر شامخة في موسم الحصاد، تطول قامتها عن قامة الإنسان، هناك سيحتمي العشاق من عيون العُزال المتلصصة، كما سيختبئ الهاربون من القانون. وهناك ستخشى الأمهات على أطفالهن من عقاب المعلم، لذا سينصحونه منذ الأسبوع الأول من حياته بطاعته.

فهن يعرفن أنه إن غضب، سيضرب الأولاد والبنات على أقدامهن بعصا اتخذها من قصب السكر نفسه، أما إذا رضي عنهم، فسيجازي الشاطرات منهن والشطار منهم بقطع صغيرة من السكر. دورة السكر والعصا.

هذا لا يعني استعمال القسوة في التعليم، بقدر ترسيخ مبادئ احترام المعلم والاجتهاد والمثابرة، والتصميم على الاستفادة من المناهج التعليمية بدءًا بالقدرة على الأقل على تعلم الكتابة والقراءة. فللأسف، ما زال في مصر عدد من الأميين، إذ تبلغ نسبتهم حوالي 16%.

هذه العزلة التي تواجه غير القادر حتى على الكتابة والقراءة، لعلها من أبشع أنواع الظلم الاجتماعي، المؤدي إلى تجاهل مدى أهمية برامج محو الأمية، وخاصة في محافظات الصعيد.

وقد أعلن الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء أن معدل الأمية في مصر لعام 2023 انخفض إلى 16.1%، بقدر 1.4% مقارنة بالعام السابق، بينما نجد أن نسبة الأمية في محافظة بني سويف بلغت 25.4%، وفي محافظة سوهاج 24.9%، يليها محافظات الفيوم، المنيا، قنا، أسيوط بنسب 24.3%، 22.2%، 19.9%، 19.6% على التوالي.

ولو نظرنا إلى تاريخ مصر القديم، بحضارتها التي تعتبر من أولى الحضارات التي اخترعت الكتابة، نرى مثلًا من تعاليم "خيتى دواوف" لابنه "بيبي" (1300 ق.م.) في مصر القديمة، والتي تدل على مدى اهتمام المصريين القدماء بالتعليم واحترام المتعلمين، والذين يصل بعضهم إلى درجة "الكاتب" وقد خلدتهم العصور بالتماثيل.

إذ كانوا المسئولين عن حفظ تاريخ الملوك والفتوحات والانتصارات، وكذلك الأسرار الدينية ومراسم الدفن والعبور إلى العالم الآخر، وذلك بالنقش على جدران المعابد أو داخل الأهرامات والمقابر أو على ورق البردي كما في "كتاب الموتى".

يقول خيتي لابنه:
«لا شيء يعلو على الكتب، الإنسان الذي يسير وراء غيره لا يُصيب نجاحًا، ليتني أجعلك تحب الكتب، لا توجد مهنة من غير رئيس لها إلا مهنة الكاتب الذي هو رئيس نفسه، إن يومًا تقضيه في المدرسة يعود عليك بالنفع».

وحيث إن التكرار هو إحدى وسائل التعليم للصغار في أغلب الحضارات والبلدان إلى الآن، نجد أن العديد من الأبحاث العلمية تشير إلى أن التكرار المنتظم والمنهجي للمعلومات يمكن أن يسهم في تعزيز الحفظ وتعميق الاستيعاب، إذ إعادة تكرار المعلومة تقوي الروابط العصبية المرتبطة بها في الدماغ.

وكلما تم تكرار المعلومة بشكل متكرر، زادت قوة واستقرار هذه الروابط، مما يسهل استرجاعها لاحقًا.

وهذا يقارب ما نصح به عالم التربية والتعليم برهان الدين الزرنوجي (591هـ) في كتابه "تعليم المتعلم طريق التعلم":
«ينبغي لطالب العلم أن يعد ويقدر لنفسه تقديرًا في التكرار، فإنه لا يستقر في قلبه حتى يبلغ ذلك المبلغ، وينبغي لطالب العلم أن يكرر سبق الأمس خمس مرات، وسبق اليوم قبل أمس أربع مرات، والذي قبله ثلاث، والذي قبله اثنتين، والذي قبله مرة واحدة، فهذا أدعى للحفظ».

وفى النهاية، كما يقول المثل الشعبي الذي لا نمل من سماعه: "التكرار يعلم الحمار"، وفي النسخ المنقحة: "التكرار يعلم الشطار".



قد يعجبك أيضا

شارك بتعليقك