الإبحار فى عالم رضوى عاشور الإبداعى والنقدى يجعلنا نرى هذا المشروع أقرب إلى العقد الذى يجمع حباته نظرة إلى الكتابة الأدبية على أنها مسكونة بالتاريخ. فالأزمنة والأمكنة المتخيلة والتاريخية فى مجمل أعمالها الروائية هى فصول من «حكاية» مشتبكة مع الواقع الاجتماعى التاريخى، تتشكل فيه وتشتبك مع قضاياه.
لا يكتمل الحديث عن رحلات رضوى عبر التاريخ دون الحديث عن روايتها الفلسطينية منذ النكبة عام ١٩٤٨. كتبت عاشور سردية نكبة فلسطين، مرورا بحرب لبنان الأهلية وحتى انتصار المقاومة فى أوائل الألفية الثالثة متمثلا فى تحرير الجنوب اللبنانى عام ٢٠٠٠ كما نجد فى روايات أطياف وقطعة من أوروبا والطنطورية وأثقل من رضوى. والملاحظ أن رضوى عاشور لا تتعامل مع التاريخ بشكل سطحى أو بوصفه خلفية لأحداث رواياتها، بل نجد أن الحس النقدى للكاتبة يجعلها تنحو منحى تاريخيا دون طمس النص ما أتاح لها نقل النقد الأدبى من حيز الانشغال بالنص الفنى بأدواته الجمالية الخالصة إلى حيز التاريخ البشرى عبر قرون، دون إغفال خصوصية النصوص الفنية بطبيعة الحال.
أما قضية فلسطين، قضيتنا وقضيتها الجوهرية، فنأخذها نموذجا لعلاقة التاريخ بالنص الأدبى كما تراه أستاذتنا. فالنصوص لا تبتلع التاريخ والتاريخ لا يحجب القيمة الجمالية للنص ولكنها علاقة متداخلة ومتكاملة. إن هذا الاهتمام بفلسطين، الوطن، الأرض والقرى، الرحيل، مذابح دير ياسين، الطنطورة، وصبرا وشاتيلا ومجازر قانا والحرب على غزة، كما تناولتها الكتابات الأخيرة لرضوى عاشور، تظل حاضرة بقوة فى معظم أعمال رضوى عاشور الأدبية قبل الطنطورية. فنجد أن الكاتبة قد مزجت بين عناصر السيرة الذاتية وواقع التاريخ الفلسطينى بوثائقه الشفهية والمكتوبة من خلال شخصية «شجر»، أستاذة مادة التاريخ الحديث والتى تسعى فى كتابة بحث فى موضوع دير ياسين، كما نجد تضافر التاريخ الفلسطينى والتاريخ العربى وحتى المصرى القديم. فكم منا قد انتبه ــ كما فعلت رضوى عاشور ــ إلى الربط بين حدث دخول اليهود الأوروبيين للقدس مثلا عام ١٩١٧ واحتلال الإنجليز لمصر كما نقرأ فى قطعة من أوروبا؟
إن اهتمام الكاتبة بفلسطين بوصفها محور حكاية العرب لما يقرب من قرن من الزمان يتعدى حضورها فى الشعر والرواية الفلسطينية كما تناولتها الكاتبة بالنقد فى كتابها النقدى، صيادو الذاكرة حيث تناولت بالبحث أعمال إميل حبيبى ورواية إلياس خورى باب الشمس إلى جانب نماذج من أعمال غسان كنفانى وأنطون شماس حيث ترى الكاتبة أن الحكاية والذاكرة ووعى الهوية هى محاور تسعى لامتلاك الأرض ومقاومة نفى الذاكرة. فى هذا الكتاب النقدى المهم، تتجاوز الكاتبة الاهتمام بالموضوع الفلسطينى فى أعمال فلسطينية وعربية إلى الحضور الفلسطينى فى أشعار فؤاد حداد وأمل دنقل حيث ترى كاتبتنا فى أشعارهما «محاولة لوصل الماضى بالحاضر ووصل الشفهى بالمكتوب».
لكن بالعودة إلى فلسطين فى الروايات، أول ما يلفت نظرنا فى روايتى أطياف والطنطورية تحديدا هو وعى الكاتبة بمزج التاريخى والواقعى بالمتخيل عن طريق استخدام آليات سردية قوامها تضفير التوثيق التاريخى بالثقافى والإنسانى، فيجد القارئ نفسه أمام ملحمة بشرية أبطالها أناس عاديون كما فعلت الكاتبة فى الثلاثية من قبل. ولعل توظيف التوثيق التاريخى داخل النصوص فى الحالة الفلسطينية تحديدا والتركيز على توثيق المذابح وأشكال المقاومة المختلفة التى قام بها أبناء القرى الفلسطينية فى 1948، هو محاولة الكاتبة الاشتباك مع السردية التاريخية التى ظلت تروج أن فلسطينيى عام 1948 سلموا قراهم بلا مقاومة فتقول الراوية عن أستاذة التاريخ شجر فى أطياف: «لكنها وهى تجمع المتاح من الوثائق والكتب والمقالات كانت تكتشف خيوطا جديدة تتبعها بحرص فتقودها إلى مساحة من المعرفة تقف أمامها مندهشة متسائلة: لماذا ظلت طوال تلك السنوات غائبة، من غيبها، وكيف، ولماذا؟» أما فى الطنطورية فالكاتبة تعطى مساحة من السرد عن محاولات مقاومة الشباب الفلسطينى مذبحة صابرا وشاتيلا المروعة أيضا عن طريق الحكى والتوثيق التاريخى كمحاولة للحفاظ على الذاكرة الجمعية ليس فقط للفلسطينيين بل للأمة بأسرها؛ فالكتابة هنا تصبح فعل مقاومة لمحاولات طمس حقائق النكبة وما بعدها والمجازر المروعة التى شهدتها المدن والقرى الفلسطينية من عام 1948؛ تلك المجازر المستمرة حتى لحظة كتابة هذه السطور فى غزة على وجه الخصوص. إنها محاولة مقاومة «كى الوعى» لأبناء الأمة والتى تهدف إلى إصرافهم عن حقيقة الاحتلال من ناحية ومن ناحية أخرى تساءل أبناء هذه الأمة عن كيفية تعايشهم مع هذا الحال ودورهم حيال حالة الشعور بالقهر والهزيمة وهم يروون آثار المذابح: كيف احتملت؟ كيف احتملنا وعشنا وانزلقت شربة الماء من الحلق دون أن نشرق بها ونختنق؟ (الطنطورية، الفصل 23).
حكاية رضوى عاشور الفلسطينية إذن وسرديتها للمذابح التاريخية هى حكاية القهر الفلسطينى والعربى الممتد من عام 1948 حتى الآن، لكنها أيضا حكاية مقاومة هذا العجز؛ إننا كقراء نقرأ روايات عاشور عن فلسطين وسردها للمذابح «التاريخية» من موقعنا فى الحاضر ونتفاعل معها انطلاقا مما نشاهده اليوم من إبادة للشعب الفلسطينى مرة أخرى ووعينا أيضا بواقعنا المهدد بالتهميش والنفى. وها هى رضوى عاشور تطرح سؤالها/ سؤالنا الذى نخشاه من الأجيال القادمة عن مسئوليتنا فى الإبادة الحالية وصمتنا المدوى حيالها على لسان الحفيدة لجدها فى قطعة من أوروبا: «ماذا صنعتم يا جدى، كيف أوصلتمونا إلى ما نحن فيه»؟!
أستاذة الأدب المقارن بكلية الآداب جامعة عين شمس