طابور قصير في صالة استقبال "مكتبة أمريكا التذكارية" بالقرب من محطة هالشستور في برلين الغربية. أقف لأعيد بعض الكتب وأمامي فتيان عمر الواحد منهما نحو ستة عشر عاما. انهمك أحدهما في ملء استمارة اشتراك. بدا عاجزا عن استئناف التسجيل لوهلة. تلفت حوله في قلق ثم همس لزميله بصوت مرتجف: كلاوس.. ماذا أكتب؟ من مكاني خلفهما كنت أستطيع رؤية الاستمارة بوضوح. كان سن القلم متوقفا بجوار خانة الجنسية.
كنا في فترة هلامية من تاريخ المدينة المتوتر بين سقوط السور (كفكرة وليس كواقع) في التاسع من نوفمبر 1989 ثم إزالته فعليا في التاسع من فبراير في العام التالي وحتى إتمام الوحدة في أكتوبر من نفس العام. لم تكن الأمور وقتها واضحة كما نتصور اليوم. عام قلق ومفاوضات لا نعلم كيف ستنتهي بين الألمانيتين وأمريكا والاتحاد السوفييتي من جهة، خلافا لمفاوضات أخرى كانت تجريها تكتلات سياسية من ألمانيا الشرقية تأمل في استئناف مسيرة الاشتراكية بعد إصلاحات تهدف لترسيخ الديمقراطية وحقوق المواطنة.
عند هذه النقطة أجدني مترددا في الاسترسال تماما كذلك الشاب الذي عجز عن ملء الاستمارة. فاللحظة مكثفة وطبقاتها كثيرة تحتاج أكثر من وقفة ربما عند المكتبة الأمريكية ذاتها وحصار برلين الذي كانت نتيجة له، قبل أن نعود للفتيين.
انتصر الحلفاء الاربعة (أمريكا، انجلترا، فرنسا، والاتحاد السوفييتي) على الألمان في الحرب العالمية الثانية عام 1948. قسمت ألمانيا إلى أربعة قطاعات وزعت على المنتصرين. ثم قسمت العاصمة برلين لأنها كانت تقع داخل القطاع السوفييتي. تفاقمت خلافات الأيديولوجيا بين المنتصرين الذين انقسموا إلى معسكرين: معسكر شرقي (شيوعي/ اشتراكي) وقف فيه الاتحاد السوفييتي وحده. ومعسكر غربي للباقين ضم قطاعات ألمانيا الممزقة ليكون جمهورية ألمانيا الاتحادية أو "ألمانيا الغربية"، وقطاعات العاصمة لتصبح "برلين الغربية".
ادخل الغربيون المارك الغربي كعملة جديدة ليفصلوا اقتصاد الدولة الغربية فجن جنون السوفييت وحاصروا القطاعات الغربية من برلين التي تقع جغرافيا داخل قسمهم الشرقي (كان هذا قبل إنشاء السور عام 1961). أغلقوا الطرق وخطوط السكك الحديدية والمداخل النهرية يوم 24 يونيو 1948 لإجبار الغرب على إلغاء المارك الجديد. خيم شبح الجوع على المدينة، فبدأت واحدة من أكبر عمليات الإمداد الجوي في التاريخ بمشاركة قوات جوية من: أمريكا، فرنسا، انجلترا، نيوزيلندا، كندا، وجنوب إفريقيا. عام كامل كانت تهبط فيه في أوقات الذروة طائرة كل نصف دقيقة تحمل كل متطلبات الحياة من غذاء ودواء ووقود. أكثر من ربع مليون رحلة جوية، ونحو مليوني طن من الإمدادات، ثلثاها من فحم التدفئة وثلاثة أرباعها من الولايات المتحدة وحدها، إلى أن رفع السوفييت الحصار في مايو أي بعد نحو عام.
سياسيا أضر الحصار بصورة السوفييت ودفع ألمانيا الغربية في اتجاه حلف الناتو الذي انضمت إليه عام 55. إلا أن أحد نتائجه غير المباشرة كان مكتبة رائعة!
تقديرا لصمود أهل برلين في مواجهة الحصار جمع الأمريكيون تبرعات قيمتها خمسة ملايين دولار، ضاعفتها بلدية برلين بمبلغ مماثل لتبنى مكتبة مركزية ضخمة مفتوحة للجميع تضم مئات الآلاف من الكتب وأرشيفات الوثائق ومجموعة ضخمة من الأعمال الموسيقية ومطبوعات الأطفال.
سنعود في الأسبوع القادم إن شاء الله إلى كلاوس وصديقه في الطابور. دعونا حتى ذلك الحين نتوقف لوهلة أمام قرار الألمان باستخدام المنحة في بناء مكتبة! ألم يكن من الأجدى بعد الحصار و"المؤامرة الشيوعية" أن تكرس كل الموارد لشراء أسلحة ووسائل حماية؟!
للغرابة فضلوا بناء مكتبة!
يالهم من سذج!