سعيد شيمي عندما يحكي - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
الثلاثاء 16 أبريل 2024 7:38 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سعيد شيمي عندما يحكي

نشر فى : السبت 1 أبريل 2023 - 9:20 م | آخر تحديث : السبت 1 أبريل 2023 - 9:20 م

بين مدير التصوير الكبير سعيد شيمى، وصديق عمره المخرج الراحل محمد خان، وقد عرفت الاثنين عن قرب، أشياء مشتركة كثيرة أهمها عشق السينما، والقدرة المدهشة على السرد والحكى، الشفاهى والمكتوب.

يفعلان ذلك بلغة التفاصيل والصورة، فكأنهما فى حالة سرد مستمر، حتى وهما بعيدان عن صنع الأفلام.

خان كان طفل الفصل الحكاء، يفتن عليه زملاؤه، فيأمره المدرّس بأن يقف أمامهم ليحكى حكاية، فيفعل خان فى سعادة.

تبلورت هذه القدرة فيما بعد فى القصص والسينايوهات التى كتبها خان، مثل قصة وسيناريو فيلمه الأشهر «أحلام هند وكاميليا»، كما عبّرت عن نفسها فى سردٍ شفاهى باهر، فما زلتُ أذكره وهو يحكى لى عن لقائه بعد سنوات مع الفتاة المالديفية التى لعبت بطولة فيلمه «يوسف وزينب».
كان وصفه للقاء مؤثرا لدرجة أننى لمحتُ لمعان الدموع فى عينيه أثناء الحكى.

سعيد شيمى يمتلك أيضا نفس القدرة الشفاهية، وما زلتُ أتذكر جولة مشى معه فى شوارع الزمالك، وجولة أخرى لاكتشاف بيت عائلته القديم فى ميدان عابدين. حكى لى خلال هذه الجولات طوفانا من الحكايات والمواقف، وكان يفعل ذلك بالحركة والمؤثرات أحيانا.

تذكرت براعة السرد عند شيمى، وأنا ألتهم الجزئين الثانى والثالث اللذين صدرا أخيرا من كتابه «حكايات مصور سينما» (دار الهالة للنشر)، فكأنى أرى الرجل وهو يحكى ويسرد بتدفق، وبتفاصيل تحمل نبض الحياة، وتستدعى إلى القارئ شخصيات مهمة، ومواقف طريفة ضاحكة، وشهادات مهمة عن ممثلين ومخرجين عمل معهم شيمى، مثل محمد خان، وعلى عبدالخالق، ونادر جلال، وأحمد عاطف، وأحمد زكى وممدوح عبدالعليم.

جدارية ضخمة لكواليس صناعة الأفلام، خلال حقبة زمنية طويلة، يستكمل فيها شيمى ما جاء فى الجزء الأول من الكتاب، الذى حقق نجاحا كبيرا، بالذات بين الأجيال الجديدة، ويجمع من جديد بين سحر الحكاية وطرافتها، وبين ما وراء الحكاية، من شغف بالسينما، وصبر على التجويد والإتقان، فى ظل إمكانيات بائسة وهزيلة، وظروف إنتاجية فقيرة، وساعات عمل طويلة، ومحاولات لا تنتهى للتعامل مع النجوم والنجمات والمنتجين وأماكن التصوير داخل وخارج مصر، بل ومناطق التصوير فوق الأرض، وتحت الماء، وشيمى كما هو معروف رائد فى التصوير تحت الماء، فى أفلام درامية طويلة حققت نجاحا كبيرا مثل «جحيم تحت الماء»، و«جزيرة الشيطان».

فكرة الحكايات شخصية بالتأكيد، ودافعها تأمل مسيرة الزمن، وبصمته وتجاعيده على الوجوه والأماكن، وتأمل رحلة العمر فى حب السينما.

ولكن لأن ذاكرة شيمى خصبة وحادة، ولأن لديه وعيا كبيرا بفن السينما وأهميته، ووعيا أكبر بتاريخ بلده وأماكنها ولحظاتها التاريخية، صارت هذه الأجزاء الثلاثة شهادة عن جيل وفن وصناعة، وجزءا من تاريخ الفيلم المصرى، بل إن فيها رد اعتبارٍ لشخصياتٍ منسية ومهمة، تعلم منهم شيمى، مثل أستاذ فن التصوير عبدالفتاح رياض، والمؤرخ والناقد أحمد الحضرى، أو كانوا ضمن أعضاء فريق التصوير «المناضل»، الذين أنجز شيمى أفلامه بصحبتهم، مثل الميشانيست عم سالم الذى ابتكر كرين (رافعة) لحمل الكاميرا والمصور فى موقع تصوير فيلم «البرىء»، والميشانيست على المجنون، الذى ابتكر غطاء للكاميرا يحجب صوت موتورها الصاخب عن الميكروفونات، ومثل إبراهيم الزرّ الذى أنقذ حياة سعيد شيمى المعلّق فى الهواء فوق الكرين، لحظة وقوع زلزال أكتوبر الشهير فى التسعينيات من القرن العشرين.

هذه الأسماء لن تقرأ عنها إلا فى سرديات شيمى، وكأنه يريد أن يوثِّق جهد وابتكارات رجال الظل وهم خلف الكاميرا، مثلما يحرص على أن يوضح متاعب المهنة، ومفارقاتها العجيبة، من هجوم البلطجية ومدمنى المخدرات على ممثلى فيلم «مشوار عمر» أثناء التصوير فى المقابر، إلى «بهدلة» فريق فيلم «حكايات الغريب»، أثناء التصوير فى منطقة عين شمس.

سترى صورة مختلفة عن النجوم والنجمات، فتجد يوسف وهبى وهو يحدد للمخرج موضع الكاميرا، ويرتجل الحوار لنفسه أثناء تصوير فيلمه التليفزيونى «أغنية للحب والموت»، وسترى نادية لطفى وهى تبحث عن لمبة الإضاءة الخاصة بها أثناء تصوير فيلم «بيت بلا حنان»، وستدهشك أحوال رشدى أباظة، وهو يحمل مسدسه أثناء تصوير فيلمه قبل الأخير «سأعود بلا دموع»، استعدادا لمواجهة الكائنات الفضائية الهابطة من السماء!

يقدم شيمى شهادة مهمة عن مواقف اندماج أحمد زكى فى أفلامه، ورغبته فى ألا يرى المساعدين وراء الكاميرا، وشهادة مهمة أخرى عن حضور فريد شوقى الإنسانى، وخفة ظله، وطقوسه فى ضرورة تناول القهوة قبل تصوير مشاهده، وستجد حكايات عن احتراق دوبلير أثناء تصوير أحد مشاهد فيلم «سلام يا صاحبى»، وعن إنقاذ نور الشريف ونورا من الموت غرقا أثناء تصوير فيلم «العار»، وعن مغامرات البحث عن السفن الغارقة تحت الماء، والحرب المريرة مع الأسماك، من أجل تصوير لقطة تستغرق عدة ثوان على الشاشة.

يتحول الخاص طوال الوقت إلى عام، حتى دون أن يقصد سعيد شيمى، فيذكر مثلا لحظة إصابة والده بالشلل، وهو يشاهد بجانبه فيلما فى سينما «كرنك» الصيفى، ولكن هذه اللحظة الشخصية يسبقها ما يشبه التوثيق لسينمات وسط البلد فى الأربعينيات والخمسينيات، ومعظم هذه السينمات اندثر تماما فى أيامنا الراهنة.

يمكنك أن ترى دائما فى الكتاب هذا الشغف، الذى لولاه ما تم تصوير واستكمال كثير من الأعمال، ويمكنك أن ترى دوما مواهب وشخصيات عظيمة فنيّا وإنسانيّا، وجيلا يساند بعضه بعضا، ويحفر فى الصخر، ليصنع أفلامها تعيش وتبقى.

سترى أيضا لحظات غير معروفة وغريبة مع مخرجين كبار مثل هنرى بركات، وعاطف سالم، وشهادات عن مخرجين لا علاقة لهم بالإخراج، لدرجة أن أحدهم استغرب من قدرة عدسة الزووم على التقاط الصورة من مسافة بعيدة!

رحم الله محمد خان، وأطال الله فى عمر سعيد شيمى، ليسرد ويشهد، ويمتعنا بالحكايات.

محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات