مثلث الشك.. الانتخابات الإسرائيلية وما بعدها - ياسر علوي - بوابة الشروق
الثلاثاء 14 مايو 2024 10:29 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

مثلث الشك.. الانتخابات الإسرائيلية وما بعدها

نشر فى : الإثنين 2 مارس 2009 - 1:59 م | آخر تحديث : الإثنين 2 مارس 2009 - 1:59 م

 لم تشهد إسرائيل منذ نشأتها انتخابات حفلت بمثل حجم العبث واللامعقول الذى ميز انتخاباتها الأخيرة. فوسط سباق انتخابى صاخب بين يمين متطرف يقتات على حالة الذعر العام فى إسرائيل، ويسار «تاريخى» مهدد بالاندثار يمثله حزب العمل، نفاجأ بأن الحملة الانتخابية خلت تماما من أى حديث جدى عن القضايا الداخلية (الأزمة الحادة التى تفتك بالاقتصاد الإسرائيلى) أو الخارجية (تسوية الصراع العربى ــ الإسرائيلى)، واقتصرت على سباق فى رفع العقيرة بالزمجرة والوعيد لقائمة لا تنتهى من الأعداء.

مشهد ما بعد الانتخابات لم يقل عبثية. المتنافسان الأساسيان بنيامين نتنياهو زعيم الليكود وتسيبى ليفنى قائدة كاديما يصر كل منهما على إعلان «انتصاره» فى الانتخابات وأحقيته بتشكيل الحكومة، ثم يبدأ مشهد فكاهى يعلن فيه كل من زعيم حزب العمل باراك وتسيبى ليفنى تمنعهما عن الانضمام لحكومة نتنياهو، فيرد الأخير بالتأكيد على أنه سيضمهما لحكومته، وبأنهما يتمنعان «وهما راغبان» على طريقة بيت الشعر الشهير.

لا يمكن فهم هذا الكم من اللامعقول إلا على خلفية ما يمكن تسميته بــ«مثلث الشك» الذى يخيم فى الفترة الأخيرة على السياسة الإسرائيلية. الضلع الأول لهذا المثلث يتمثل فى شك الجمهور الإسرائيلى فى الطبقة السياسية بأكملها من أقصى اليمين لأقصى اليسار. فالجمهور الإسرائيلى يشك فى أحزاب الوسط واليسار (كاديما والعمل) فيسقطهما بوضوح لصالح أحزاب اليمين. ولكن نفس الجمهور يشك أيضا فى اليمين فيعطى حزب كاديما بمفرده أصواتا أعلى من أصوات الليكود، أكبر أحزاب اليمين. هذا التصويت المتناقض كان فى الواقع تصويتا بعدم الثقة فى الأحزاب الثلاثة الكبار، وإعلانا عن حجم الأزمة التى تمر بها إسرائيل.

الضلع الثانى للمثلث هو شك أقطاب السياسة فى بعضهم البعض. باراك يخشى تفاهما بين نتنياهو، وليفنى يترك حزب العمل للاندثار فى أقبية المعارضة. ليفنى تخشى تعريض كاديما ــ الحزب الوحيد فى تاريخ إسرائيل الذى نشأ حزبا حاكما من اليوم الأول الذى تأسس فيه على خلفية انشقاق آرييل شارون عن الليكود ليشكل حزبه الحاكم «كاديما» من خليط من المنشقين عن الليكود والعمل ــ لتجربة البعد عن الحكم، بكل ما تحمله من احتمالات عودة أعضائه «لمواطنهم الحزبية الأصلية»، ليندثر هذا الحزب الهجين بنفس السرعة التى نشأ بها. ونتنياهو يشك فى مؤامرة من ليفنى وباراك «لحشره» فى حكومة ضيقة لليمين، بشكل يعرض هذه الحكومة للتصادم مع الجميع، ويكرر تجربته السابقة فى الحكم
(1996-1998) التى كرست صورته كرمز للتطرف وأسقطته بعد عامين فقط ليمضى بعدهما عشر سنوات كاملة فى التيه السياسى. هذا الشك المتبادل هو ما يفسر لعبة الشد والجذب بين أقطاب السياسة الإسرائيلية، وإعلانات الاستعداد للدخول فى الحكومة ثم التنصل منها، فالعودة لتأكيدها، ثم نفى هذا التأكيد، ثم نفى النفى!!

الضلع الثالث ــ والأخطر ــ يمثله الشك الذى يعصف بالمجتمع الإسرائيلى لأول مرة فى تاريخه فى قدرة الجيش على ردع «الجيران». فمنذ الدخول الدرامى للصواريخ أرض ــ أرض إلى مسرح العمليات فى الصراع العربى ــ الإسرائيلى أثناء العدوان الإسرائيلى على لبنان عام 2006، وما عنته من دخول المدن الإسرائيلية فى مرمى النيران العربية، والجيش يتخبط من أداء هزيل (حالة لبنان) إلى أداء مرتبك على أقل تقدير (حالة غزة). فى ظروف إسرائيل، والدور المركزى الذى لعبه تفوقها العسكرى تاريخيا، يترجم هذا الشك قلقا وجوديا يدفع المجتمع الإسرائيلى إلى الاصطفاف يمينا، بحثا عن متطرف جديد ينجح فى فرض «السلام المسلح» الذى تفتقده إسرائيل.

كيف ينعكس «مثلث الشك» على السياسة الإسرائيلية؟ وما تداعياته على الوضع الإقليمى؟ ربما لايزال الوقت لتقديم الصورة كاملة، ولكن يمكن على الأقل تقديم ثلاثة استخلاصات أساسية:

أولا: بصرف النظر عن حيازة نتنياهو واليمين الإسرائيلى الأكثرية داخل الكنيست، فإن طبيعة الحكومة القادمة ومستقبلها هما فى الواقع بيد تسيبى ليفنى. فأمامها خياران: الأول هو المشاركة فى الحكومة مع نتنياهو وأحزاب اليمين العلمانى (باستبعاد حزب شاس المتدين الذى يتناقض مع كاديما فى العديد من القضايا الداخلية)، لتجنب حزبها اختبار الذهاب للمعارضة، وعندئذ سيكون أمامنا حكومة مستقرة شكليا بحكم عدد أعضاء الكنيست الداعمين لها (حوالى 70 من أصل 120 عضوا)، ولكنها غير مستقرة عمليا بسبب التنافر الحاد بين أعضائها والذى يجعلها عرضة للمزايدات الداخلية بينهم ويزيد احتمالات سقوطها لدى استقالة أى من أقطابها المتنافرين احتجاجا على أى قرار يحبذه شركاؤه فى الحكم ولكنه لا يناسبه. الخيار الثانى هو محاولة استنساخ تجربة شيمون بيريز عندما خسر الانتخابات أمام نتنياهو عام 1996، بالبقاء خارج الحكومة وإجبار نتنياهو على تشكيل حكومة ضيقة من اليمين المتطرف تصطدم بالجميع، وعلى رأسهم إدارة أوباما (كما اصطدمت حكومة نتنياهو الأولى بإدارة بيل كلينتون) بما يفرض انتخابات نيابية مبكرة. فى الحالتين عدم الاستقرار السياسى يبدو نتيجة لا مفر منها، ويصعب تصور أن تبقى هذه الحكومة لأكثر من عامين أو ثلاثة.

ثانيا: النتيجة الطبيعية لهذا الغياب للاستقرار السياسى، هو عجز هذه الحكومة عن اتخاذ أى قرارات حاسمة تجاه القضايا الكبرى الداخلية أو الخارجية، إما بسبب تنافر أقطابها (فى السيناريو الأول) أو بسبب ضيق قاعدة تأييدها داخل الكنيست (السيناريو الثانى). فى كلا السيناريوهين، ملف التسوية السلمية فى المنطقة مرشح لجمود سياسى فى الحد الأدنى، أو ــ فى أسوأ الأحوال ــ لدورة جديدة من المحاولة الإسرائيلية للهروب للأمام، والقفز فوق الأزمات الداخلية بمغامرات عسكرية، أو بمواقف فجة فى عنصريتها وتحديها للإرادة العربية ولأبسط مبادئ العدالة الإنسانية (تقدم لنا تصريحات أفيجدور ليبرمان زعيم حزب «إسرائيل بيتنا»، صاحب المركز الثالث فى الانتخابات الأخيرة وداعية قصف السد العالى، عينة يومية لهذه المواقف).

ثالثا: عندما قامت حكومة نتنياهو الأولى عام 1996، وحملت نفس التهديدات بالانجراف نحو دوامة اليمين ومغامراته العسكرية، كان الرد العربى بما سمى وقتها «قمة التضامن» فى القاهرة عام 1996، وكانت أول قمة عربية موسعة بعد الانقسام الكبير فى أزمة غزو الكويت وتوابعه. فماذا يكون رد العرب اليوم؟
اليمين الإسرائيلى يصعد الآن فى مواجهة مشهد استقطاب عربى غير مسبوق.. وغنى عن البيان أن الشرط الضرورى لمواجهة تداعيات «التصويت للتطرف» الذى شهدته الانتخابات الإسرائيلية هو حد أدنى من التنسيق والتماسك العربى يسمح على أقل تقدير بتمرير فترة عامين لن يزيد عنهما على الأرجح عمر الحكومة الإسرائيلية القادمة.
وهذا يتطلب أكثر بكثير من مجرد لقاءات مجاملة بين متخاصمين عرب. المطلوب حوار عربى ــ عربى جاد يعيد توجيه البوصلات نحو التناقض الرئيسى فى المنطقة، ويعطيه الأولوية على التناقضات الفرعية الأخرى. فلا يصح أن يختفى «مثلث الشك» الإسرائيلى، تحت وطأة «غابة الريبة» بين العرب. العناق أمام الكاميرات وتبادل المجاملات لن يكفيا هذه المرة، كما لم يكفيا فى جميع المرات السابقة.
كاتب مصرى

ياسر علوي  كاتب وأكاديمي مصري
التعليقات