غزوة المجتمع المدنى - أحمد يوسف أحمد - بوابة الشروق
الثلاثاء 30 أبريل 2024 12:58 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

غزوة المجتمع المدنى

نشر فى : الخميس 5 يناير 2012 - 9:00 ص | آخر تحديث : الخميس 5 يناير 2012 - 9:00 ص

كأنه أصبح قدرا على الوطن أن يخرج من فتنة إلى أخرى. كلما أُطفئت نار للفتنة أُوقِدَت غيرها، والتفسير واحد لا يتغير: مزيج من الأخطاء المتبادلة وسوء التقدير وحماقة التنفيذ وغير ذلك. أقصد هنا عملية المداهمة التى طالت سبعة عشر مقرا لمنظمات حقوقية مصرية ودولية، وقيل إن السبب فى هذا هو ارتفاع الأرصدة المالية لهذه المنظمات فى البنوك مما جعل قضاة التحقيق يتوجهون بشكل مفاجئ إلى مقارها بحثا عن أية مستندات أو أموال تفيد التحقيق الجارى فى مسألة التمويل الأجنبى الذى تتلقاه هذه المنظمات مباشرة دون مرور بالدولة المصرية، وما يمكن أن ينجم عن هذا الوضع من سلوكيات مرفوضة تجاه الوطن.

 

وكما هو متوقع حدث الاستقطاب بين الموقف الرسمى ومناصريه من ناحية والموقف الرافض هذه الخطوة شكلا وموضوعا من ناحية أخرى. دافعت الحكومة عن موقفها بأنه تصرف قضائى بحت، وأن المنظمات التى هوجمت متورطة فى مخالفة صريحة لصحيح القانون الذى يقضى بأن تكون مسجلة وفقا للشروط التى يحددها، وألا تتلقى مساعدات نقدية مباشرة من مصادر خارجية إلا عبر الحكومة.

 

من ناحية أخرى كان الرد جاهزا من المنظمات المصرية التى طالتها عملية المداهمة وظهيرها من المنظمات والقوى الأخرى، فالخطوة ليست إلا جزءا من سياسة تكميم الأفواه بعد أن تصاعدت حدة انتقادات المنظمات الحقوقية لانتهاكات حقوق الإنسان فى الآونة الأخيرة.

 

أما المنظمات الدولية التى تعرضت للإجراء الأخير فقد أبدت انزعاجها الشديد من تصرفات لم تحدث حتى فى عهد مبارك، وطالبت بوقف الهجوم على منظمات المجتمع المدنى الدولية وشركائها المحليين، ولم تدخر الدول أو الكيانات التى تنتمى إليها هذه المنظمات وسعا فى الإعراب للحكومة المصرية عن رفضها لما تم، فطالبت واشنطن بوقف ما سمته «إرهاب المجتمع المدنى»، وأُشيرَ إلى أن ثمة تهديدا بوقف المساعدات الأمريكية لمصر، بل وضغطا على عدد من الدول العربية الغنية لكى لا تقدم بدورها مساعدات لمصر، وطالبت وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبى السلطات المصرية بترك منظمات المجتمع المدنى تزاول عملها بعد هذه المداهمات، واستدعت الخارجية الألمانية السفير المصرى فى برلين، واختلفت الروايات حول طبيعة اللقاء ما بين تصويره كلقاء أظهر صرامة الدولة الألمانية تجاه ما وقع ومطالبتها بالتحقيق فيه، وبين أنه كان مجرد استدعاء للاستفسار وإبداء الطلبات المعهودة فى مثل هذه الحالات.

 

●●●

 

هكذا اكتملت الحلقة الخبيثة للاستقطاب السياسى حول المسألة، ولا يدرى أحد هل أصبح هذا قدَر مصر، أم أن كسر هذه الحلقة بالتوصل إلى «كلمة سواء» ما زال ممكنا؟ ثمة عدد من الملاحظات بخصوص ما وقع يمكن أن يساهم فى أية مبادرة للتوصل إلى هذه الكلمة:

 

أولى الملاحظات أننى كنت ــ وما زلت ــ من أشد المطالبين باحترام القانون كى يمكن بناء مصر الجديدة على أساس راسخ، وحتى لو قيل إن القانون الذى يحكم المنظمات التى تمت مداهمتها مرفوض لأنه وُضع فى العهد السابق فإنه يلاحظ أن المنظمات المعنية به لم تبذل جهدا لافتا لتغييره بعد ثورة يناير، وربما لو كانت فعلت هذا بدلا من بعض التصرفات التى لم تحقق من ورائها شيئا لتمكنت بالفعل من تغيير القانون، خاصة وقد كان واضحا أن المجلس العسكرى يستجيب للضغوط الشعبية القوية. غير أنه يجب أن يكون واضحا أنه حتى لو تغير القانون فإن مبدأ التمويل الأجنبى فى غيبة مؤسسات الدولة ورأيها العام سوف يبقى مرفوضا لاعتبارات تتعلق بالسيادة الوطنية.

 

وثانى الملاحظات أنه على الرغم من التشديد على سيادة القانون فإنه ليس بالقانون وحده يحيا الإنسان، ولذلك وجبت الإشارة إلى السياق السياسى للمسألة، إذ إن عددا من المنظمات التى طالتها المداهمات لعب دورا يعتد به فى الدفاع عن حقوق الإنسان قبل الثورة وبعدها، وكم كنت أشعر بالخجل إبان عضويتى فى المجلس القومى لحقوق الإنسان فى دورته الأولى وأنا أرى هذه المنظمات التى كان المسئولون عن بعضها ممثَلين فى المجلس تنجز فى أيام قليلة ــ وأحيانا ساعات ــ ما لم يكن المجلس كله قادرا على التحرك بشأنه ولو خطوة واحدة فى أسابيع، وكم دخلت فى مناقشات تتهم أطراف فيها هذه المنظمات بأنها تتلقى تمويلا مشبوها، فكنت أرد بأن مصدر التمويل وطريقته قد يثيران علامات استفهام لكن الدور الفعلى لهذه المنظمات على الأرض يعطيها شرعية سياسية قوية، ومع ذلك يجب أن يعترف مسئولو هذه المنظمات الجادة بأن ثمة «دكاكين» لحقوق الإنسان يحصل أصحابها على تمويلات سخية من الخارج مقابل بعض الأنشطة المظهرية ذات الطابع الارتجالى.

 

أما الملاحظة الثالثة فتتعلق بالتوقيت، فقد كان الجدل يدور حول مسألة التمويل الأجنبى لمنظمات حقوقية فى مصر منذ نجاح الثورة فى الإطاحة برأس النظام، لكن المداهمات أتت فى وقت شديد الحساسية تتصاعد فيه حدة انتقادات المنظمات الحقوقية للانتهاكات اليومية لحقوق الإنسان، ولذلك اكتسب القول بأن المداهمات جزء من سياسة تكميم الأفواه صدقية واسعة، وكان الأفضل أن تتم الإجراءات الموصوفة قضائيا بمجرد البدء فى التحقيق وليس فى هذا التوقيت السيئ. وزاد الطين بلة أن المداهمات تزامنت مع حكم البراءة الذى صدر بحق ضباط شرطة متهمين بقتل متظاهرين، وهكذا بدا للعامة أن ثمة تناقضا صارخا بين التهاون مع مجرمى النظام السابق والتشدد مع نشطاء الثورة.

 

ثمة ملاحظة رابعة تتعلق بشمول الحملة جميع الأطراف المعنية بحيث يبدو التصرف القضائى متوازنا. لم تشمل الحملة مثلا جماعة الإخوان المسلمين التى لا يوجد حاليا تكييف قانونى لوضعها، وثمة علامات استفهام حول تلقيها وغيرها تمويلا عربيا واسعا يرد عليها الإخوان بأنهم يعتمدون على أنفسهم فى تمويل أنشطتهم، وكان من الضرورى أن تشمل الحالة جميع الأطراف التى تثار حولها الاتهامات خاصة أن المجلس العسكرى ما زال متهما بالتنسيق رفيع المستوى مع تيار «الإسلام السياسى» من أجل ضمان استقرار المرحلة القادمة.

 

فى الملاحظة الخامسة أثار الأسلوب الذى استخدم فى الحملة دهشتى الشديدة، فقد بدت العملية وكأنها هجوم مفاجئ لضبط «حالة تلبس»، وقيل فى تفسير هذا إن حسابات المنظمات التى تمت مداهمة مقارها فى البنوك قد تضخمت بشكل لافت، والصحيح أن متابعة الأرصدة المختلفة ومصادرها سوف تتم على نحو أكثر دقة من خلال البنوك، ولا يتوقع من مخالف أن يحتفظ بثروته أو أسراره فى مقر منظمته، ولذلك ما كان أغنانا عن العملية بأسرها على أن تستبدل بها تحقيقات قضائية تستعين بالبنوك وتستدعى بعض الناشطين لسؤالهم على نحو لائق فى مقر النيابة العامة.

 

تبقى ملاحظة سادسة وأخيرة تتعلق بردود الفعل الأجنبية الغاضبة تجاه ما وقع، وما ارتبط بها من تلميحات إلى تهديدات، وكلها لا تعنينى فى شىء، غير أن ما توقفت عنده هو ما قيل بشأن الوعد الذى التزم به رئيس المجلس العسكرى تجاه وزير الدفاع الأمريكى بأن تتوقف عملية المداهمات، ولاحظت أن مصدرا رسميا لم ينف هذا الوعد، وهنا توقفت غاضبا: إما أن ما تم كان قانونيا وبالتالى لا معنى لإعطاء وعود بالتوقف، وإما أنه لم يكن كذلك وهنا يصبح إعطاء الوعود مفهوما، وبدا لى لاحقا أن موقف الحكومة أكثر اتساقا عندما حرصت الوزيرة المختصة فايزة أبوالنجا على أن توضح إمكانية توفيق أوضاع المنظمات الأجنبية التى خالفت القانون المصرى شريطة احترامها هذا القانون.

 

●●●

 

وقد يكمن حل هذه المعضلة فى أن يتم تعديل القانون بحيث تتلقى المنظمات الحقوقية ما تشاء من تمويلات أجنبية بشرط أن يكون ذلك بعلم الدولة، وإذا تشككت سلطاتها فى سلوك تلك المنظمات عليها أن تحيل الأمر للقضاء، ومن هنا يبدأ السعى «لكلمة السواء». فلتنطلق المنظمات الحقوقية الجادة فى طريقها لحماية حقوق الإنسان دون عائق سوى العمل فى كنف الدولة التى لن تفرض عليها أية قيود اللهم إلا إذا تشككت فى سلامة تصرفاتها، وهنا يصبح الأمر كله بيد القضاء. تعبنا من السعى إلى «كلمة سواء» حتى كدنا نفقد الأمل، فهل من مستجيب يحيى جذوة الأمل فينا من جديد؟

 

أحمد يوسف أحمد أستاذ العلوم السياسية بكلية الإقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة، وعميد معهد الدراسات العربية