سلامى عليك يا زمان - محمد موسى - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 7:59 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سلامى عليك يا زمان

نشر فى : الأربعاء 5 فبراير 2014 - 4:05 ص | آخر تحديث : الأربعاء 5 فبراير 2014 - 4:05 ص

قبل أكثر من قرن ظهر لحن فريد يؤرخ لبدايات الأغنية الوطنية المصرية فى العصر الحديث، لكنه جاء متنكرا فى صورة تنهيدة تشكو تغير الزمن، وغياب العدل، وقهر الرجال.

يقول المذهب:

عشنا وشفنا سنين

ومن عاش يشوف العجب

شربنا الضنى، والأنين

جعلناه لروحنا طرب

كاتب النص هو رئيس محكمة الإسكندرية ومحافظها إسماعيل صبرى باشا، أحد نجوم نهضة الشعر فى نهايات القرن التاسع عشر. وكتب الكلمات منتقدا الاستعمار البريطانى، الذى كان «يكمم الأفواه ويراقب الصحف والاجتماعات، ويقضى على أى صوت يرتفع بنقد الاتفاقية، أو بتوعية الرأى العام»، كما كتب الدبلوماسى والشاعر أحمد عبدالمجيد. نتحدث هنا عن اتفاقية 1899، التى فرض بها اللورد كرومر على بلدنا نظام الحكم الثنائى للسودان.

والملحن هو محمد عثمان، عبقرى مصر فى النصف الثانى من القرن التاسع عشر. ملحن لم نعرف مثيلا له فى الابتكار والقلق الفنى والتجديد. وصل بقالبى الموشح والدور إلى ذروة لم تتكرر بعده، وتسلل بأسلوبه التعبيرى إلى غابات الطرب المتوارثة من القرون الوسطى، ليبلور الملامح الأولى للموسيقى المصرية العصرية.

القالب اللحنى هو الدور، تركيب فنى معقد وممتع، اختراع أهدته مصر للموسيقى العربية، فيها ولد وترعرع، وعلى أرضها وصل أوج اكتماله، ثم اختفى تماما فى العقد الرابع من القرن العشرين.

تمام الجميل انجاز

وصدق المعاهدة شرف

هكذا يبدأ الغصن بالعتاب المر لبريطانيا التى خدعت مصر بمعاهدة لم تصدق فيها، ولم تكمل جميلها بإنجاز ما وعدت به.

ومن يتبع الرفق فاز

وعصره بفضله اعترف

اللحن الهادئ فى بدايته سيحمل المتفجرات بعد قليل، عندما يتحول إلى شكوى الظلم، بسؤال مزلزل فى بساطته اللفظية، وتعبيره الموسيقى الغاضب:

غيرنا تملك، وصال

واحنا نصيبنا خيال

كده العدل يا منصفين؟

كيف توصل عثمان لتلحين «كدا العدل» على هذا النحو المؤلم العذب؟.

فى كتابه القيم «الموسيقى الشرقية والغناء العربى»، يحكى قسطندى رزق عن أن المطرب عبده الحامولى «غنى فى تركيا دور فين العدل يا منصفين؟، فسُجن 24 ساعة بسبب ذلك الدور المشئوم».

المقام الذى اختاره محمد عثمان حكاية طويلة. إنه الراست العتيد فى تنويعة ذات أصل فارسى، يجعل اسمه راست دلنيشين، ومعناه الكلمة الفارسية: خضوع القلب، أو ركوعه. والتنويعة تضيف إلى الراست مذاق الصبا الحزين عند صعوده للنغمات العليا.

محمد عثمان صاغ لحن هذا الدور من الراست الأصلى، لكن عبده الحامولى غناه مع تحويله إلى الدلنيشين، حسب الكاتب نبيل حنفى محمود، فى مقال رائع بمجلة «أحوال مصرية».

فى الدقائق الأخيرة من اللحن ندخل فى أجمل مراثى الموسيقى العربية، عندما يتبادل المطرب مع الكورال البكاء على زمن الهناء الذى انقضى:

سلامى عليك يا زمان

زمان الهنا والأمان

لا كلمات تعبر عن الحالة التى يدخلنا فيها اللحن هنا. حنين بلا طائل إلى سنوات الهنا و«الأمان». حنان يلف ذلك الزمن الضائع بـ«سلام» رقيق حزين، وآهات حارة تطبع الزفرة الأخيرة للأغنية، فى ذكرى «الأحبة العزاز».

ليست مجرد أغنية، بل صيحة شجاعة فى وجه من يتنكرون لوعودهم، ويفرضون إرادتهم على مصر. تنهيدة ضد تغير الزمن، وغياب العدل، وقهر الرجال.

محمد موسى  صحفي مصري