بعلم الوصول - نيفين مسعد - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 5:33 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

بعلم الوصول

نشر فى : الخميس 5 مارس 2020 - 10:40 م | آخر تحديث : الخميس 5 مارس 2020 - 10:40 م

في العام الماضي نشرت دار الشروق مجموعة قصصية لأحمد خير الدين بعنوان "بعلم الوصول"، وفيها جمع المؤلف عدداً كبيراً من الرسائل تنتمي لمراحل تاريخية مختلفة وتعبر عن مناسبات أيضاً مختلفة. المؤلف من هواة جمع الرسائل القديمة كما أن هناك هواة يجمعون العملات أو الطوابع القديمة أو يحتفظون بالتحف النادرة. هذه الرسائل اعتبرها الصحفي عبد الحليم حفينة تنتمي لأدب الاعتراف أكثر مما تنتمي لأدب الرسائل، فالأبطال فيها مجهولون وهذا يعطيهم حرية أكبر للبوح والفضفضة. مثل هذه العلاقة بين كتابة الرسائل والاعتراف سوف نجدها أيضًا في فيلم "بعلم الوصول" الذي ألّفه وأخرجه هشام صقر، وقامت ببطولته النجمة بسمة مع عدد كبير من الممثلين البارعين لم يسبق لي أن تعرفت عليهم من قبل. أقول هناك علاقة بين المجموعة القصصية وبين الفيلم من زاوية أن الخطابات التي كانت تجدها بسمة علي باب شقتها هي التي قادتها إلى الشفاء من اكتئابها، خطابات بلا توقيع ولا هي موجهة لأحد لكننا نفهم أن بسمة هي المرسلة وهي المستقبلة. في الخطاب الأول بدت بسمة وكأنها تعاتب نفسها لتقصيرها في السؤال عن أحوال صديقتها، وفي الخطاب الثاني تعجبت بسمة من تقلب حالتها النفسية التي تجعلها تنهض يوماً من سريرها بكل خفة وتجعلها في يوم آخر لا تستطيع حتى أن تتنفس. أما الخطاب الثالث فحمل لها بشري سارة بأن والدة صديقتها أو بالأحرى هي نفسها قد شفيت وغادرت المستشفى. أمسكَت بسمة بالخطاب الأخير وألقت به في الهواء وكأنها تُطير معه هواجسها وكوابيسها التي كانت تطاردها كل ليلة وتجعلها تتكوم في سريرها خلف زوجها كالقطة .
***
قدم لنا هشام صقر فيلماً واقعياً بامتياز، ترك التفاصيل تتحدث عن نفسها وتجعلني وتجعل غيري يرون صورتهم فيها. هذه البقع الداكنة التي تناثرت على جسد بسمة أعرفها جيداً، أعرفها لأنها كانت الوسيلة التي تمرد بها جسدي على إحساس فظيع بالظلم انتابني في فترة من فترات حياتي، قالوا لي حينها إن لكل جسد طريقته في التمرد، فالجسد قد يتمرد بجلطة أو بمرض السكري وقد يتمرد ببعض البقع الداكنة، وهذا أضعف أشكال التمرد. اعتدلتُ في مقعدي، فجزء يشبهني معروض على الشاشة. لم نعرف بالضبط لماذا اكتأبت بسمة أو متى اكتأبت بالتحديد، فلعل رواسب الوفاة المبكرة للأب هي السبب، ولعله اكتئاب ما بعد الولادة، ولعله لا يوجد أصلاً سبب وجيه، حين تحتكم المشاعر الإنسانية للوجاهة فإنها تفقد تلقائيتها. دخَلت بسمة على صديق والدها المتوفي وهو مسجي على فراشه، راحت تقرأ له الفاتحة وتلعق دموعها بينما طرف الوسادة التي يرقد عليها يتحرك بتأثير المروحة المثبتة في السقف، هذا المشهد أيضًا له عندي ذكرى ما، صحيح أنها ذكرى مختلفة في تفاصيلها لكن لها القسوة نفسها. على هذا النحو سارت التفاصيل الواقعية جدا، السماعة في أذن الأم نلحظها وليس لها توظيف في الفيلم، الصرصار الذي تطارده بسمة في حوض المطبخ وتغرقه في الماء، سؤال: هو أنا علشان ماباعرفش ألعب ماينفعش أحلم إني بالعب؟، جملة: الخوف من الضلمة مابيفضلش لأن الضلمة نفسها ما بتفضلش، وجملة: أكتر حاجة ما باحبهاش في شقتنا إن ماعندناش بلكونة. أفتح قوسين لأبدي إعجابي بالسيناريو .
***
في فيلم "بعلم الوصول" ما لا يقل عن ستة نماذج من النساء، البطلة بسمة مريضة الاكتئاب التي أنقذت نفسها بنفسها عن طريق التراسل الذاتي وكأن الفيلم يريد أن يقول لنا إن نجاتنا تنبع من داخلنا، أختها المراهقة التي تفعل كل الممنوع: تلعب في الشارع وتتأخر في العودة للبيت وترسم وترسم وترسم، أمها الرافضة لسلوك هذه الفتاة المراهقة، صديقتها التي تتزوج سراً والتي تثور علي بسمة ثورة- في نظري- غير مبررة وتتهمها بالأنانية مع أنها هي أيضاً أنانية لأنها في عز معاناة بسمة كثيراً ما طلبت منها خدمات أدتها لها رغم أنفها، زميلة زوجها في البنك التي لم تتزوج لأن العرسان لا يتقدمون إلا للبنات الحلوة، عميلة البنك التي تستحل المال الحرام بعد أن أخطأ زوج بسمة وأودع في حسابها ٨٠ ألف جنيه بدلًا من ٨ آلاف جنيه فكان الحبس هو مصير الزوج. يقول بعض متابعي أفلام السينما المستقلة إن الشخصية المحورية في الفيلم، أي شخصية بسمة، عادة ما تتكرر في هذا النوع من الأفلام حيث نجد أنفسنا إزاء امرأة مطحونة تعاني من عدم القدرة علي التكيف مع المجتمع لسبب أو لآخر، والسبب في فيلم "بعلم الوصول" هو المرض النفسي. ربما كان هذا صحيحًا، لكن ربما كان صحيحاً أيضاً أن رسالة الفيلم عن أن العلاج النفسي ينبع من الذات رسالة مهمة تحتاج إلى التأكيد عليها .
***
تألقت بسمة في هذا الفيلم وأتاحت لها طبيعة الشخصية المركبة أن تستعرض قدراتها التمثيلية، في المشهد الذي راحت تراقب طفلتها وهي نائمة شعرتُ وكأن نظرتها تبدلت من الرغبة المجنونة في الإجهاز عليها، إلى الرغبة المحمومة في التأكد من أنها حية. وفي المشهد المتكرر لبسمة وهي تفك خيط الأريكة ثم تعود وتصلح ما أفسدت بدت لي كأنها تقاوم اكتئابها وتصارعه، يغلبها اكتئابها حيناً فتفك الخيط بعصبية وتغلب اكتئابها حيناً آخر فترتق الخرق بصبر وتصلحه. ولعل مثل هذا الشد والجذب كان هو نواة الخروج من الاكتئاب قبل أن تفكر بسمة بشكل لا إرادي في معالجة نفسها وتكتب رسائل الاعتراف والفضفضة. كذلك كان تمثيل محمد سرحان أو زوج بسمة سلسًا مقنعًا على قصر دوره في الفيلم، أما رفل أو الأخت المراهقة فقد كانت لطيفة جداً وأظنها مرشحة بامتياز لأدوار البنت الشقية.
***

فيلم "بعلم الوصول" ليس فيلماً جماهيرياً بحكم طبيعة موضوعه وافتقاره إلى المواد الحريفة التي عادة ما تعجب الجمهور، لكنه فيلم جيد يركز على الاكتئاب الذي هو من آفات هذا العصر، ومعه يثير أكثر من قضية كلها حقيقي وكلها مُعاش .

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات