ثلاثة محددات.. لماذا لا تلوح الحرب العالمية الثالثة في الأفق؟ - مروة صبحي منتصر - بوابة الشروق
الأربعاء 6 أغسطس 2025 12:52 ص القاهرة

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تتوقع النجاح لنظام الدوري المصري الجديد في ظل مشاركة 21 فريقًا؟

ثلاثة محددات.. لماذا لا تلوح الحرب العالمية الثالثة في الأفق؟

نشر فى : الثلاثاء 5 أغسطس 2025 - 7:20 م | آخر تحديث : الثلاثاء 5 أغسطس 2025 - 7:20 م

رغم تصاعد التوترات الجيوسياسية فى السنوات الأخيرة، يظل احتمال اندلاع حرب عالمية ثالثة على غرار الحربين الأولى والثانية مستبعدًا. فبينما يرى البعض أن الصراع الروسى الأوكرانى، وتفاقم التوتر فى بحر الصين الجنوبى، وتصاعد المواجهة بين إسرائيل وإيران مؤشرات على حرب كبرى تلوح فى الأفق، فإن التحليل المتأنى يُظهر أن العالم لا يزال محكومًا بمحددات ثلاثة تقيّد فرص نشوب حرب شاملة: التوازن الحذر بين الولايات المتحدة والصين، والتحول العميق فى طبيعة الحرب، واحتساب الصين الدقيق لكُلفة المغامرة العسكرية الكبرى.

أولًا: التنافس الأمريكى - الصينى.. صدام مؤجل أم استقرار مضطرب؟

كثيرًا ما تُطرح المواجهة بين بكين وواشنطن كأبرز مرشح لإشعال شرارة الحرب العالمية الثالثة، غير أن طبيعة العلاقة بين القوتين العظميين تُظهر تعقيدًا يفوق التصعيد العسكرى المباشر. فرغم سعى الصين لتوسيع نفوذها فى بحر الصين الجنوبى ودخولها فى مناوشات مع الهند، فإن سجلّها الحربى منذ 1979 يشير إلى عزوف طويل عن الحروب الشاملة.

منذ انتهاء الحرب الباردة، لم تنزلق أى من القوتين فى مواجهة عسكرية مباشرة، رغم الأزمات المتكررة مثل تايوان، هونج كونج، أو بحر الصين الجنوبى. يُعزى ذلك إلى وعى الطرفين بكلفة الحرب، وعمق ترابط الاقتصادين، وهو ما عبّر عنه هنرى كيسنجر بقوله: «إن الرغبة فى الهيمنة لا تلغى الحاجة للتعايش».

ورغم التصعيد الكلامى، والعروض العسكرية الاستفزازية، فإن سلوك بكين لا يزال محكومًا بالحذر، والتوازن. لم تخض الصين حربًا كبرى منذ 1979، وتُفضل خوض معاركها عبر أدوات التأثير الاقتصادى والدبلوماسى والتقنى، وليس عبر الميدان العسكرى. وحتى فى الملفات الأكثر توترًا مثل تايوان، لا تزال الصين تلجأ إلى التهديد والضغط وليس الغزو المباشر.

فى استطلاع أجرته NORC عام 2023 على 2000 أمريكى و700 من صناع القرار السابقين، أظهر أن 57% فقط من الأمريكيين يدعمون استخدام القوة ضد الصين إذا أقدمت على مهاجمة حاملة طائرات أمريكية، بينما تراجع الدعم إلى 51% إن لم يسقط قتلى أمريكيين. ما يكشف أن الرأى العام الأمريكى نفسه ليس فى وارد دعم الحرب، إلا فى حال الإكراه المباشر. ويؤكد هذا الاستطلاع أن الدعم الشعبى الأمريكى لاستخدام القوة ضد الصين يتأثر بشدة بحجم الخسائر المباشرة، ما يعكس تحفظًا جماهيريًا تجاه الانجرار لحرب مفتوحة.

تاريخيًا، امتنعت الصين عن التصعيد المباشر مع واشنطن حتى فى لحظات حرجة مثل أزمات مضيق تايوان أو قصف سفارتها فى بلجراد عام 1999. وعلى الرغم من التصعيد التكنولوجى والعسكرى الذى تشهده السنوات الأخيرة، لا تزال بكين تُفضّل أدوات القوة غير المباشرة كالهجمات الإلكترونية والضغط الاقتصادى والدبلوماسى. هذا النمط من التعامل يُبقى الاحتمال العسكرى منخفضًا نسبيًا رغم الاحتكاكات.

 

ثانيًا: تغير طبيعة الحرب... من الخنادق إلى الشفرات الرقمية

باتت الحروب الحديثة أقل اعتمادًا على الجيوش الجرارة وأكثر توظيفًا للتكنولوجيا والذكاء الاصطناعى والهجمات السيبرانية. لم تعد الحرب تُخاض فقط عبر الحدود، بل داخل الفضاء الرقمى والمعلوماتى، وهو ما يجعل النزاع أكثر صمتًا ولكن أقل قدرة على التصعيد الشامل.

على سبيل المثال، تُظهر الحرب فى أوكرانيا أن القوى الكبرى تتفادى التورط المباشر. فرغم تسليح الغرب لأوكرانيا، وتورط روسيا بشكل عسكرى، إلا أن الحرب لم تمتد جغرافيًا، ولا تزال منضبطة ضمن حدود معينة، تجنبًا للتصعيد نحو مواجهة عالمية. وحتى فى الشرق الأوسط، حيث تتكرر الاشتباكات، تظل المواجهات ضمن حدود إقليمية لا ترقى إلى نمط حرب عالمية. هذا الاتجاه يُعزز من فرضية أن القوى الكبرى تتجنب الانخراط المباشر فى مواجهات مفتوحة نظرًا لفداحة كلفتها، خاصة فى ظل التوازن النووى.

كما أن الاستجابة الأمريكية السريعة فى أبريل 2025 لوقف التصعيد بين إسرائيل وإيران بعد الضربات التى استهدفت منشآت إيرانية، تعكس وعيًا عميقًا بمخاطر انزلاق المنطقة إلى حرب لا يمكن احتواؤها. الخوف من اللعبة الصفرية فى حال تورط القوى النووية يبقى صمّام أمان غير مكتوب يحول دون المواجهات الشاملة.

كما أن التقدم الكبير فى مجال الذكاء الاصطناعى والروبوتات والأنظمة المؤتمتة قد أعاد تشكيل قواعد اللعبة. تمتلك الدول الكبرى اليوم أسلحة ذكية قادرة على اتخاذ قرارات مستقلة، ما يعزز من خطورة التصعيد غير المقصود، لكنه فى الوقت نفسه يرسّخ منطق الردع.

وتُظهر دراسات حديثة أن إدخال الذكاء الاصطناعى فى أنظمة الردع النووى يُعزز من كفاءة التهديد المتبادل، ويقلل من احتمالات المغامرة. ومع ذلك، تبقى هناك مخاوف من اختلال السيطرة البشرية على هذه المنظومات، وهو ما يستدعى يقظة دائمة من جانب صناع القرار.

ثالثًا: حسابات الصين.. الحرب ليست الطريق الأقصر

قد يرى البعض فى التصعيد الصينى حول تايوان أو بحر الصين الجنوبى نُذر حرب مقبلة. غير أن سلوك الصين الخارجى خلال العقود الأربعة الأخيرة يُظهر ميلًا استراتيجيًا نحو القوة الاقتصادية والتجارية لا العسكرية. وعلى الرغم من امتلاكها أحد أكبر جيوش العالم وتسارع تطويرها للأسلحة المتقدمة، تبقى بكين مدركة أن الدخول فى حرب مفتوحة سيُهدد ما راكمته من مكتسبات.

بل إن بعض التحليلات ترى أن الصين قد تستخدم الأدوات العسكرية فى إطار ما يُسمى بـ«استعراض القوة»، أو قاعدة «الانتصار دون حرب»، حيث تسعى لتحقيق مكاسب سياسية وجيوسياسية عبر الردع، وإبراز القوة، دون اللجوء إلى المواجهة. وقد أظهرت أزمة تايوان الأخيرة أن بكين لا تزال تميل إلى التصعيد الرمزى، لا الفعلى. وحتى استعداداتها اللوجستية مثل تخزين الغذاء والوقود، أو تطوير أنظمة دفاعية متقدمة، تندرج ضمن استراتيجيات الردع، لا الهجوم.

علاوة على ذلك، فإن دروس الغزو الروسى لأوكرانيا قد تركت آثارًا عميقة لدى صناع القرار فى بكين. فقد أظهرت الحرب هشاشة المؤسسة العسكرية الروسية رغم التفوق العددى، كما أظهرت براعة الاستخبارات الغربية فى كشف نوايا موسكو. ويُقال إن الصين بدأت تراجع مؤسستها العسكرية على ضوء هذه الدروس، مكتشفة حجم الفساد وضعف الكفاءة.

فى المقابل، تؤكد مصادر استخباراتية أمريكية أن الصين قد تستعد لغزو تايوان بحلول 2027. لكنها تواجه عقبات كثيرة، أبرزها التحديات الاقتصادية الداخلية، وتراجع النمو، وتآكل الثقة الدولية، بالإضافة إلى المخاوف من ردود أفعال غربية ساحقة.

من جهة أخرى، يشير باحثون إلى أن الصين رغم توترات اقتصادها وتباطؤ نموها، لا تميل إلى اتخاذ قرارات عدوانية لصرف الأنظار عن مشاكلها الداخلية، بل تعتمد سياسات احتواء وتكيف اقتصادى بدلًا من المخاطرة العسكرية.

أضف إلى ذلك، إدراك بكين أن توازن القوى لم يصل بعد إلى نقطة تُمكنها من فرض إرادتها عسكريًا دون مخاطرة جسيمة. فالمقارنة مع الجيش الأمريكى لا تزال تُظهر تفوقًا أمريكيًا فى مجالات حاسمة مثل سلاح الجو، الاستخبارات، والتحالفات.

هل يمكن استبعاد الحرب كليًا؟

بالرغم من هذه المحددات الثلاث، لا يعنى استبعاد الحرب العالمية أنها مستحيلة. فثمة محاذير من استخدام الذكاء الاصطناعى فى الأنظمة القتالية، وهو ما قد يؤدى إلى قرارات خاطئة تؤجج الصراعات دون تدخل بشرى مباشر. كما أن التوترات المتصاعدة، إذا ترافقت مع سوء تقدير أو صدامات غير محسوبة، قد تفتح الباب لتصعيد خطير.

لكن، حتى مع هذا الاحتمال، يبقى العالم اليوم محكومًا بمصالح اقتصادية كبرى، وروابط تجارية متداخلة، وتوازنات ردع دقيقة، تجعل من الحرب الشاملة خيارًا مكلفًا وغير مرجّح. وهو ما يجعل من مقولة: «الحرب العالمية الثالثة لن تبدأ، لكنها قد تتشكل ببطء فى ظلال الحروب الصغيرة» أقرب للتوصيف الدقيق للحظة التاريخية الراهنة.

 

 

مروة صبحي منتصر مدرس العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية- جامعة القاهرة
التعليقات