على الرغم من أن مسار الحرب الروسية على أوكرانيا يصعب التنبؤ به، إلا أنه يمكن توقع عدم رغبة بوتين لوقف حربه على أوكرانيا فى المستقبل القريب. وتعمل الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول الغرب على زيادة المساعدات العسكرية والأمنية واللوجيستية مع آمال كبيرة لديهم لإجبار الرئيس بوتين على وقف الحرب لكنهم لن يتمكنوا من ذلك. وفيما يلى محاولات تفسير ذلك:
أولا، فى أوقات الحروب قد يتحول الوقت إلى سلاح قاتل بيد أحد الأطراف. يرى بوتين أنه كلما طال أمد الحرب كلما تألم الغرب. وعلى الرغم من إظهار الولايات المتحدة الأمريكية والقادة الأوروبيين علنا دعمهم لكييف، يقال إن مسئولى إدارة بايدن يفقدون الثقة فى قدرة أوكرانيا على كسب الحرب ويناقشون بشكل خاص إمكانية تنازل الرئيس الأوكرانى فولوديمير زيلينسكى عن الأرض لبوتين. وعلى الرغم من أن الحرب كذلك مكلفة على روسيا لكن تكلفتها على الغرب أكبر.
ثانيا، يعتقد بوتين أن العقوبات الاقتصادية قد أتت بنتائج عكسية على الغرب، الذى يواجه حاليا ارتفاعا هائلا فى أسعار النفط والغاز، فضلا عن نقص الغذاء. إن العقوبات الاقتصادية غير المسبوقة التى فرضها الغرب على روسيا لم تدمر الاقتصاد الروسى، بل إنها عززته. تزدهر عائدات النفط الروسية وبلغ الروبل أقوى مستوياته منذ سبع سنوات، مما مكّن بوتين من مواصلة تمويل آلة الحرب الخاصة به. حيث يواجه الاقتصاد الألمانى انهيارا محتملا، وربما يجر بقية أوروبا معه، مما يؤدى إلى تقنين استخدام الغاز الطبيعى نتيجة التخفيضات الروسية للتدفق. فى غضون ذلك، يدخل الاقتصاد الأمريكى حالة ركود تقريبا.
ثالثا، يعتقد بوتين أنه فرض نقطة تحول فى ساحة المعركة وخارجها بعد الاستيلاء على نحو 20٪ من أراضى أوكرانيا. حيث احتلت القوات الروسية مدينة سيفيرودونتسك الاستراتيجية بالكامل فى نهاية يونيو الماضى، وسيطرت فى مطلع يوليو الجارى على ليسيتشانسك فى منطقة دونباس، وأقامت سيطرة كاملة على قلب أوكرانيا الصناعى، بما فى ذلك مصانع لإنتاج الحديد والصلب، واحتياطيات عالية الجودة من الفحم والمعادن.
بعد الانتهاء تقريبا من إنشاء الممر البرى بين شبه جزيرة القرم، التى ضمتها موسكو فى عام 2014، وروسيا، يحاصر بوتين وصول أوكرانيا إلى الموانئ البحرية، وخنق الاقتصاد الأوكرانى من خلال منع صادرات الحبوب الأوكرانية بالسفن. مع بقاء ثلاثة أشهر أخرى قبل أن تتدهور ظروف ساحة المعركة بسبب الطقس، يشعر بوتين أنه قادر على تحقيق المزيد من المكاسب الاستراتيجية مع الاستمرار فى تدهور البنية التحتية لأوكرانيا وقدرتها على الدفاع عن نفسها.
تماشيا مع عقيدة بوتين فى «هيمنة التصعيد»، تكثّف روسيا قصفها الصاروخى على أوكرانيا بينما تعمل واشنطن على تحسين نطاق وحجم الأسلحة التى تزود بها كييف.
رابعا، مع تقاطع ملفات الغاز والطاقة مع العملية العسكرية فى أوكرانيا، فى غضون الثلاثة أشهر المقبلة، سيتمكن بوتين من إلحاق المزيد من الألم بأوروبا من خلال «هجمات الطاقة» التى يشنها مع اكتساب قدرة أكبر على صرف انتباه الغرب عن حماسه لدعم أوكرانيا.
هو يعتقد أنه مع انخفاض درجات الحرارة وبدء أوروبا الغربية فى الارتعاش، فإن الدعم لمواجهة روسيا سيتجمد أيضا. ويعد قطع الغاز لإكراه القادة الأوروبيين على التخلى عن دعمهم لأوكرانيا هو أداة قياسية فى كتاب قواعد اللعب لبوتين.
• • •
فى الوقت نفسه، ستكون الولايات المتحدة منشغلة بالانتخابات النصفية، مما يجعل على الأرجح أوكرانيا أقل أولوية بالنسبة لواشنطن. وفى ذلك، تراقب أجهزة استخبارات بوتين عن كثب الشئون الداخلية للولايات المتحدة، وتركز على القضايا المثيرة للجدل، مثل قرار المحكمة العليا الأخير بشأن الإجهاض، ومراقبة الأسلحة، والاحتجاجات التى تجتاح البلاد. ومن المرجح أن يوجه بوتين خدمات التجسس الخاصة به لإدارة حملات التأثير على الانتخابات الأمريكية، مما يؤدى إلى تضخيم الخلاف الداخلى فى الولايات المتحدة وما ينتج عنه من تشتيت الانتباه من خلال وسائل التواصل الاجتماعى والعمليات السرية، كما فعل فى الماضى.
خامسا، يخطط بوتين أيضا لاستهداف الولايات المتحدة بهجمات إلكترونية، وفقا لوكالة الأمن السيبرانى وأمن البنية التحتية الأمريكية، ردا على العقوبات، لإحداث الفوضى، وهكذا ترفع واشنطن أنظارها عن أوكرانيا.
سادسا، يعد الصراع فى أوكرانيا قضية وجودية بالنسبة لروسيا. وفى ذلك، أعلن بوتين أن أوكرانيا «خط أحمر» لتوسيع الناتو. لأن روسيا تعتبر أوكرانيا جزءا من محيطها الأمنى الاستراتيجى.
مع قبول الناتو لعضوية دول البلطيق، تم تقليص المسافة بين قوات الناتو وروسيا من 1000 ميل خلال الحرب الباردة إلى 100 ميل اليوم، مما يجعل خطر وجود تحالف عسكرى معادٍ قريب جدا من حدود روسيا أمرا غير مقبول، من وجهة نظر روسيا.
يعتقد بوتين أن سياسة الولايات المتحدة لإضفاء الطابع الديمقراطى على ما تعتبره روسيا مجال نفوذها هو تهديد صريح لوجود روسيا، بغض النظر عمن يحتل البيت الأبيض. ويصف تقرير استراتيجى سرى، تم رفع السرية عنه، سياسة الولايات المتحدة طويلة المدى التى يعتمد عليها الحزبان على أنها تسعى إلى منع «قوة معادية واحدة»، مثل روسيا، «من السيطرة على الكتلة الأرضية الأوراسية».
سابعا، بالإضافة إلى الأسباب العقائدية والأمنية الاستراتيجية التى يؤمن بها بوتين لشن حربه على أوكرانيا، فإن لديه أسبابا اقتصادية أخرى تتعلق بإصراره على ضرورة انتصار «الأسلحة العسكرية الروسية» فى تلك الحرب، لأنه يعتبر أن تلك الحرب هى بمثابة مختبر لتسويق الأسلحة الروسية. وبالتالى إذا خرج منهزما أو متفاوضا فى تلك الحرب فهذا يعنى أن سمعة الأسلحة الروسية ستكون فى الحضيض، وخاصة أن روسيا تعد ثانى أكبر مصدر للأسلحة على مستوى العالم، بعد أن بلغت قيمة صادرات الأسلحة الروسية فى المتوسط نحو 13 مليار دولار فى 2020/2021.
وأخيرا، يبدو أن غرض بوتين من حربه تلك تتعدى أهدافه المعلنة فى بداية الحرب وهى منع كييف من الانضمام لحلف الناتو، وعدم وضع أسلحة وقواعد صاروخية موجهة إلى أراضى الفيدرالية الروسية فى أوروبا الشرقية. ويتوقع مسئولون أوروبيون أن تلك الحرب ستطول. وفى ذلك، حذر الأمين العام لحلف الناتو ينس ستولتنبرغ من إطالة أمد الحرب فى أوكرانيا، وقال فى تصريح لجريدة ألمانية «إنه يجب الاستعداد لحقيقة أن الأمر قد يستغرق سنوات، ويجب عدم التوانى عن دعم أوكرانيا حتى لو كانت التكاليف باهظة، وألا يقتصر الدعم على الجيش بل يتعداه إلى دعم أسعار الطاقة والغذاء». فى الوقت نفسه، ألقى بوتين الكرة فى ملعب الغرب، مستغلا فزاعة الوقت للغرب، قائلا: «إن الحرب ستطول طالما استمر مد أوكرانيا بالسلاح». وصرح مرات عديدة فيما يعنى بأنه ليس فى عجلة من أمره لإنهاء الحرب،
قائلا: «العمل يسير بسلاسة وإيقاع، ليست هناك حاجة للحديث عن التوقيت»، ثم قال مرة أخرى إنه: «لن يتراجع».
• • •
من خلال المعطيات السابقة، يمكن وصف استراتيجية بوتين فى الحرب «بالانتظار مع إطالة أمد الحرب» لكى تتعثر العزيمة عند الغرب باستمرار دعم أوكرانيا تحت الضغط الاقتصادى وانهيار حكومة الرئيس الأوكرانى زيلينسكى. وبالتالى يحقق بوتين أهدافه بأقل خسائر ممكنة.
مدرس العلوم السياسية بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية – جامعة القاهرة