الرصيف والسلوكيات العامة - عمرو عبدالقوى - بوابة الشروق
الخميس 25 أبريل 2024 1:26 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الرصيف والسلوكيات العامة

نشر فى : الخميس 5 نوفمبر 2015 - 1:25 م | آخر تحديث : الخميس 5 نوفمبر 2015 - 1:25 م

الشعب المصرى أصبحت له سمات تميز شخصيته المعاصرة تتبلور بتجلى فى كل مخرجاته وعلاقاته الداخلية بين أعضائه وعلاقاته الخارجية مع المجتمعات الأخرى. ترسم هذه العلاقات حدود تحدد ما يخص الفرد وما يخص الآخر أو المجتمع: هناك حدود للملكية، وحدود للفراغ الخاص وحدود للأحداث والاحتفالات الاجتماعية.

وفى محيطنا الحضرى منطقة الحدود الفاصلة أو الواصلة بين الملكية الخاصة والعامة، وبين المشاة والسيارات نسميها بالرصيف. هل هى حدود فاصلة أم نقاط تلاقى واصلة؟ هل هى ملكية عامة أم خاصة؟ هذه أسئلة يبدو أن لها عدة إجابات فى المجتمع المصرى بعضها يتناقض مع البعض، ولكن فى مجملهم يبدو أنها ترسم صورة واضحة للشخصية المعاصرة وبالأخص فيما يرتبط بالجوانب الحاكمة للعلاقات بين الأنا والآخر. فمما لا شك فيه أن الرصيف أصبح ساحة للتفاعل بين أطراف المجتمع المختلفة: الفرد والفرد، الفرد والمجتمع والفرد والحكومة. لنتوقف عند بعض المشاهد على أرصفة المدن المصرية لنقرأ لعلنا نواجه بعض حقائق شخصيتنا المعاصرة:

المشهد الأول.. الاقتصاد حر للكل
الحى الشعبى يقارب مبانى فارهة على النيل، والرصيف لا يتعدى عرضه المتر على شارع لا يتعدى عرضه العشرة أمتار. شباك الدور الأرضى للمبنى الملاصق للرصيف يرتفع عن مستوى الشارع مترين تقريبا بحيث تمتد كوابيل حبال الغسيل فوق رأس المارة مباشرة. المرأة متوسطة العمر قاطنة الشقة تطل من الشباك لتباشر عملها اليومى فى تنظيم سيارات العاملين بالمبانى الفارهة على الرصيف تحت شرفتها الذى حولته لساحة انتظار سيارات مقابل ايجار شهرى أو يومى حسب الظروف. أصحاب السيارات يعتبرون نقاط المياه التى تتساقط على سياراتهم من غسيل المرأة نوع من البركة فهم يوفرون أسعار الانتظار الباهظة فى جراجات المبانى الفارهة.. هذا ان وجد المكان!

المشهد الثانى.. الملكية العامة الخاصة
الحى راقٍ قياسا بعدد وانواع السيارات التى تملئ جانبى الشارع. الرصيف تتوسطه أشجار قديمة عالية، مالك أحد الشقق، التى لا تقل قيمتها السوقية عن المليون جنيه يضع ماسورتين أمام الرصيف يربط بينهما بسلسلة حديد وقفل كبير يغلقه كلما أخرج سيارته من بين الماسورتين فى الصباح ليضمن بذلك بقاء هذا المكان لسيارته فى المساء، وعلى باقى سكان وزائرى الحى إيجاد حلولهم الخاصة لسياراتهم، مواسير وسلاسل أخرى، «وإيه يعنى ما الحكومة بتعمل كده كمان!».

المشهد الثالث.. الملكية الخاصة العامة
الحى جديد فى مدينة جديدة، مفروض أن جميع المنشآت فيه تكون فيللات من دور أرضى وأول، ولكن الحكومة اتزنقت فى مصاريف مدارس الولاد فباعت حقوق ارتفاع للدور الأول.. ثم الثانى.. ثم.. صحيح أن تعريف الفيللا أن بها مساحة لحديقة إلا أن المالك استغل كل شبر مصرح به للمبانى فلم يتبقَ الكثير للحديقة، ولكن هناك رصيفا محترما لا يستخدمه مارة بما أن هذه المدينة لم تصمم للمشاة، فقط للسيارات. صاحب الفيللا، يحول كامل مسطح الرصيف أمام سور أرضه إلى حديقة بأشجار ونجيلة وورود، حتى بسور الشجيرات الذى يستخدم لتحديد حدود ملكية للحدائق، وبهذا يكون ساهم فى تجميل الحى على حسابه الخاص!

المشهد الرابع.. الحياة مسابقة حواجز
الحى فى وسط البلد والأرصفة عريضة مصممة أصلاً للمشاة (من زمان يعنى)، كما صمم الدور الأرضى لغالبية المبانى فى الحى لتحوى نشاطات تجارية: محلات ومطاعم، إلا أن حركة المشاه أصبحت شبه مستحيلة بسبب التحديات، التى يتعرضون لها، والتى لا يجتازها إلا أصحاب اللياقة البدنية العالية المتخصصين فى مسابقات الحواجز الأوليمبية. الرصيف يعتبر امتدادا للمحل (فى رأى صاحبه طبعا)، وبالتالى فمن الطبيعى أن يعتبر الرصيف أمام محله امتداد له فيغير فى خاماته ومناسيبه بما يناسبه بدون مراعاة الشكل العام للرصيف: فنجد درجة أعلى أمام محل الجزم، ثم اثنين لتحت أمام محل الشنط، ثم نرى التنوع فى خامات الرصيف: بلاط موزايكو يليه رخام يساعد على التزحلق مع وجود بعض الماء، فهذا جزء من التحدى وطبيعة المسابقة.. اطلع انزل اقفز.. وحديثا استحدث تحديا جديدا يتمثل فى المنافسة بين أصحاب المحلات والباعة الجائلين فى ملء مسطح الرصيف بالبضاعة والمعروضات لاختبار قدرات المحترفين من المارة فى اجتياز الموانع.

المشهد الخامس.. ديمقراطية المنافسة
الحى جزء منه صناعى وجزء سكنى عشوائى، يخترقه طريق سريع يفصلهما سور خرسانى منخفض بجانبه رصيف ليس للمشاه طبعا فعرضه لا يتعدى الخمسين سنتيمترا. فى الجزء المقارب لبعض المساكن يختفى الرصيف تحت أكياس قمامة تتطاير من وراء السور الخرسانى لتنفجر فوق الرصيف والشارع لتشكل سلسلة العوائق الأولى للسيارات العابرة والتى إذا نجحت فى العبور تجد التحدى الأكبر فى اجتياز جبال مخلفات المبانى، التى يتركها مساء مقاولو نقل المخلفات الذين تقاضوا أجرة لنقلها إلى المقالب العمومية.. ففعلوا ذلك بالضبط!

المشهد السادس.. المشاركة المجتمعية واجب
الحى يتكون من عمارات إسكان متوسط يقطنها موظفون ومهنيون. الأدوار الأرضية لتلك المبانى كانت مصممة كشقق سكنية، ولكن مع الوقت تحولت إلى محلات ومقاهٍ ومطاعم (ولا داعى للسؤال عن قانونية هذا التحول فهذا سؤال غريب وكمان خارج الموضوع) وبما أن الشيشة يبدو أنها أصبحت ضرورة اجتماعية، فأغلب المحلات تحولت إلى مقاهٍ، وبما أن مساحة المقهى أصلاً شقة صغيرة فافترشت المقاهى الأرصفة ومساء تمتد إلى الأسفلت لتملئ كراسيها وطاولاته الشارع ليتحول هو الآخر لامتداد للرصيف وينتفى معه دوره كممر حركة للسيارات، كما انتفت قبله مهمة الرصيف كممر للمشاه. يتحول الحى بأكمله إلى قهوة كبيرة يعيش قاطنوه كل يوم حياة الترفيه، كما لو كان كل يوم عيدا أو استادا كبيرا لمباريات الكرة، والهواء مفعم برائحة الاحتفالات.. المعسل!

المشهد السابع.. الحكومة جزء من المجتمع
الشارع اتجاهان يتوسطه جزيرة ويحاذيه على الجانبين رصيفان. بصمات المحافظة والحى واضحة بتجلٍ: فقد تم إلغاء البردورات التقليدية واستبدلت بسور خرسانى بارتفاع أربعين إلى خمسين سنتيمترا لمنع السيارات من ركوب الرصيف. طبعا عدم إمكانية فتح أبواب السيارات المنتظرة بمحاذاته تفصيلة ثانوية، كما هى إشكالية اعتلاء المارة للرصيف والنزول منه بدون كسر أو شرخ أرجلهم. محطة انتظار للأوتوبيس تتوسط الرصيف وتملأه بكامل عرضه لراحة المنتظرين، وعلى المارة الالتفاف حولها من الشارع للمرور. ولتجميل الشارع حفرت أحواضا للشجر فى منتصف الرصيف وبينهما وضعت هياكل معدنية للإعلانات لتمويل عمليات التجميل هذه. أما الجزيرة فتمت زراعتها بالنجيلة ــ أو ما كان فى الأصل نجيلة ــ لأنها الآن أصبحت حشائش متوغلة وبحيرات تغذيها حنفيات المياه المكسورة.. أسهل لك تمشى فى الشارع يا مواطن بدل النزول والطلوع!

المشهد الثامن.. الخدمات العامة دائما ميسرة
الرصيف تحت الكوبرى فى شارع عمومى فى حى راقٍ. حمار يأكل برسيم ويترك مخلفاته بجانبه فى انتظار صاحبه، الذى يبيع البطيخ لسكان الحى أمام المسجد. إلى يمينه مرحاض عمومى فى حماية اعمدة الكوبرى لسد حاجات المارة المزنوقين، وعلى الجانب الآخر للحمار تجلس سيدة على الرصيف وأمامها نصبة شاى تبيعه لسائقى التاكسى الذين يعتبرونها محطة استراحة فى ظلال الكوبرى. وإلى جانبها تغسل البنت الصغيرة الأكواب فى جردل ماء متعكر وتلقى ببواقى الشاى والماء فى الشارع لتغذية كتلة العجين السوداء التى حلت محل الأسفلت.

المشهد التاسع.. التكافل الاجتماعى عام
ناصية الطريق حيث يتسع الرصيف لتلاقى الشارعين تفترش السيدة عدة بطانيات وأكياس تحتوى على كل ممتلكاتها، تنام ليلاً وتتكئ نهارا على السور المتاخم للرصيف، والمارة من المشاة أو السيارات يقومون بتوفير ما يمكنهم من دعم. ونفس المنظر يتكرر بعد بضعة أمتار كأن الحكومة وجدت فى الرصيف بديلاً سهلاً لحل مشاكل الإسكان!

المشهد العاشر.. وأنت ماذا تقرأ فى رصيف شارعك؟

اقتباس
مما لا شك فيه أن الرصيف أصبح ساحة للتفاعل بين أطراف المجتمع المختلفة: الفرد والفرد، الفرد والمجتمع والفرد والحكومة.

عمرو عبدالقوى أستاذ العمارة بالجامعة الامريكية بالقاهرة
التعليقات