فرح أميرالاى البحرية عندما كلفه الوالى محمد على بانى مصر الحديثة بالعناية بتدريب ولده الأمير إبراهيم باشا على العمل بالأسطول البحرى المصرى ــ الذى كان صاحب السيطرة على البحر المتوسط ــ وكان الوالى قد دفع بولده فى سن العاشرة إلى الانخراط فى برامج تدريبية قاسية بجميع فرق الجيش المصرى، ليتأهل لقيادة الجيوش المصرية بالجدارة والاستحقاق.
كان الوالى يؤكد صادقا لكل القادة والضباط أنه يريد أن يتسلم ولده منهم وقد صار جنديا خشنا ماهرا فى جميع التخصصات العسكرية، ويبدو أن قائد البحرية المصرية لم يتصور مدى جدية الوالى فى طلبه معاملة الأمير إبراهيم بمنتهى الحزم، فما إن رأى الفتى يدلف إلى مكتبه حتى انتصب واقفا مرحبا وهو يهتف: أهلا بمولانا الأمير إبراهيم تفضل يا سيدى وشرف مكتبى المتواضع.
وأظهر الرجل للأمير من صنوف الولاء والتبجيل ما أبهج الأمير وأرضاه، فعاد ليقص على أبيه تفاصيل جولته مع قائد البحرية، وما حظى به من احتفاء فقال محمد على لولده: أراض أنت يا ولدى عن قائدك المعلم، فأجابه مبتهجا: أجل والله يا أبى، فصرخ فى وجهه لا أريد من يرضيك عنه وإنما أريد من يرضى هو عن أدائك العسكرى، فليس هكذا يكون التعليم ولا هكذا يكون المعلم..!!
وأصدر الوالى أمره فى الحال إلى قائد البحرية فى الرسالة التالية:
«رفتناك (أقلناك) من منصبك لأنك وقفت احتراما لولدنا إبراهيم وما كان ينبغى لك أن تظهر له الولاء وهو جندى بسلاحك تأمره فيطيع، وتأخذه بالشدة التى قد تعفى منها جنودك الآخرين لأنك تعرف أننا نعده للمهام الجسام وليس للتريض والنزهة بسفن أسطولنا العظيم، ولما كان الفتى قد رأى منك اللين والرقة فإننا مضطرون لتغييرك ليأتى من لا يعرف إلا الحزم فى تربية الأمير العسكرية ليصبح رجلا بمعنى الكلمة، وليتذكر أن الإمارة هم ومسئولية وليست أبهة وجاهًا».
وقعت هذه الوثيقة فى يدى بالمصادفة فى أثناء زيارة ميدانية لدار الوثائق القومية فى عام 1981 كنت خلالها أجمع مادة رسالتى للدكتوراه فى علم الاجتماع السياسى، وكان الباحث وقتها يضطر للصعود إلى القلعة ليطلع على الوثائق التاريخية المهمة.
ولأن مصر كانت تمثل للعالم موقعا يشبه ما تمثله أمريكا فى الوقت الحالى فقد اتجه إليها فريق من الأطباء والعلماء الذين كانوا من أتباع الفيلسوف الفرنسى سان سيمون والذين أسسوا معهد (إيكول بوليتكنيك) الذى كان يضم بين أساتذته مختلف تخصصات التكنوقراط الذين عهد إليهم سان سيمون بتحويل أفكاره الخاصة بنشر عقيدته عن عبادة الإنسانية، والتى تقتضى مد الجسور بين جميع الجماعات الإنسانية لتتعايش فى سلام وتعاون.
وكان اقتراح سان سيمون هو حفر قنوات تربط البحار والمحيطات فتسهل الاتصال بين أطراف الإنسانية. ومن أمثلة تلك القنوات قناة بنما، وقناة تربط البحر المتوسط بالبحر الأحمر، وذلك قبل أن تنشأ قناة السويس.. وبالطبع لم تلق فكرة سان سيمون وأتباعه رواجا فى عالم تتجه فيه القوى الكبرى نحو مد النفوذ السياسى وخلق الأسواق التى تتطلبها سياسات النمو الرأسمالى الاحتكارية للدول الأوروبية..
ولم يجد رجال سان سيمون من المهندسين والأطباء بعد إغلاق معهدهم فى باريس سوى القدوم إلى المحروسة التى اجتذبهم إليها مشروع النهضة العظيم الذى بدأه محمد على، والذى كان وعيه بأهمية الدور الذى يمكن أن يلعبه تكنوقراط سان سيمون دافعا له لاستضافتهم وعائلاتهم، فاستوطنوا مصر ولم يغادروها، وأنشأوا القناطر الخيرية وغيرها من المشروعات المهمة، وطوروا مشروعات الرى واستصلاح الأراضى، ورسموا خريطة مشروع إنشاء قناة السويس التى سرق ديليسبس تصميماتها منهم فيما بعد ليدعى أنها من بنات أفكاره أمام الخديوى إسماعيل.
وهكذا اجتذبت مصر العقول والعباقرة إلى مشروعاتها للنهضة فكان القادم إليها كالقادم إلى الجنة يطلب قربها ويطيب له العيش فيها، وكان عقاب من تغضب عليه هو النفى منها والخروج من جنتها، التى سبق للرحالة الشهير ابن بطوطة أن أشاد بها قائلا وهو ينصح زملاءه ممن يهوون الرحلات: «إن أتيتم مصر فتخففوا من أحمالكم ودعكم من الأمتعة الكثيرة، ولا تحملوا هما لطعام أو شراب فستجدون بغيتكم فى كل خطوة فى أسواق مصر العامرة، ولا تخشوا اعتداء أو قاطع طريق فالأمان يمرح فى ربوعها، والوداعة والكرم أصيلان فى طباع أهلها»..
أعرف أن اليائسين الساخطين سيعلقون على حديثى بقولهم أين مصر تلك التى فى خاطرك وفى فمك مما نعيشه الآن من هم مقيم وشبابها يرحب بالهرب منها إلى أى مكان حتى ولو كان الغرق فى البحر هو نهاية الرحلة؟ ألم تعد مصر نموذجا للدولة الطاردة لموهوبيها، والتى تعانى نزيف عقولها وعباقرتها المطاردين من بيروقراطيتها وإداراتها المترهلة وتوحش رجال أعمالها..
ألم تدفع النغمات السياسية المريضة التى ترددت فى البداية بصوت خافت ثم ارتفعت وتعالى صوتها، وهى تدعى أن مقتضيات العصر صارت تتطلب المرونة فى موقفنا من الصراع العربى الإسرائيلى، وأن معاهدة السلام والعولمة صارت تمثل أساسا لرؤية كونية تتجاوز المأساة الفلسطينية وتتجاهل مواقف الصلف الإسرائيلى، فى الوقت الذى يلح فيه قادتنا بأن من يتمسك بموقفه الوطنى إنما يتمسك بعبادة «توتم بدائى» أخطأنا بتقديسه فى الماضى وتقتضى الاستنارة بالحداثة أن ننبذه.
ومن المحروسة خرج 28 ألف شاب للعمل والإقامة بإسرائيل، وقد تزوج بعضهم بإسرائيليات لينجب جيلا تعسا ينتمى إلى العدو بالأم والى الوطن بالأب.. فلا أجد ما يسعفنى فى الرد سوى التعبير المرير لأبى زيد الهلالى فى رحلة «التغريبة»:
من قلة المحنة وقعنا على الجفا (الجفاء)
وخدنا من دار العدو حبيب