أمثلة تحتذى من أقاصي الأرض - إيهاب وهبة - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 1:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أمثلة تحتذى من أقاصي الأرض

نشر فى : الأحد 6 ديسمبر 2009 - 11:32 ص | آخر تحديث : الأحد 6 ديسمبر 2009 - 11:32 ص

 تعرضت فى مقالات عديدة سابقة إلى ما تعانيه إسرائيل حاليا من آثار افتضاح تصرفاتها، واهتزاز صورتها أمام العالم بأكمله، ولجوء الدول والمؤسسات والمعاهد العلمية إلى تطبيق الأساليب التى سبق أن اتبعتها فى مواجهة النظام العنصرى فى جنوب أفريقيا والقائمة على ثلاثة عناصر هى المقاطعة، والامتناع عن الاستثمار، وتوقيع العقوبات (BDS) Boycott /Divestment/Sanctions ،وذلك إلى أن سقط هذا النظام المعاكس لمسيرة البشرية إلى غير رجعة.

وفى مقالى السابق مباشرة أبرزت صوتا يهوديا أمريكيا عاقلا هو صوت هنرى سيجمان، المدير السابق للمجلس اليهودى الأمريكى، الذى طالب فى مقال نشرته صحيفة النيويورك تايمز ونشرته جريدة الشروق، الرئيس الأمريكى أوباما بأن يفى بما وعد به من إنهاء الاحتلال الإسرائيلى، ويحقق التزامه بحل الدولتين، حتى ولو جلب عليه ذلك سخط إسرائيل كله. وكان طبيعيا أن تجلب دعوة سيجمان عليه هو نفسه، سخط إسرائيل غير المحدود، حيث اتهمه صحفى معروف فى جريدة هاآرتس الإسرائيلية يدعى برادلى بورستون فى مقال بتاريخ 20 نوفمبر بأنه ـ أى سيجمان ـ إنما ينتمى إلى المدرسة الفكرية التى تؤمن بأن تحقيق السلام إنما يأتى عبر شحن الكراهية تجاه إسرائيل!. ويضطر سيجمان ـ وهو اليهودى كما ذكرت ـ إلى الرد عليه بأن إسرائيل بممارساتها إنما تتمسك فى واقع الأمر بالتجربة الاستعمارية المقيتة التى تحررت من عارها الديمقراطيات جميعها.

هذه الظاهرة وغيرها من الظواهر الخاصة بالعلاقة بين يهود أمريكا وإسرائيل يجب أن نتوقف عندها طويلا.. فهى تكشف عن منحى جديد فى العلاقات بين الجانبين ربما يتطور إلى ما يفيد قضيتنا، بشرط أن نحسن استغلال هذا الحدث لصالحنا.

واتصالا بهذا، وتأكيدا لما أقوله، لابد لى أن أشير إلى ما صدر عن مراسلة إسرائيلية شاركت فى المؤتمر الأخير للاتحاد اليهودى العام لأمريكا الشمالية الذى عقد فى العاصمة الأمريكية يوم 9 نوفمبر. فالمراسلة هذه وتدعى ناتاشا موزجوفايا لاحظت من خلال مشاركتها فى جلسات المؤتمر أن العلاقة بين إسرائيل والجالية اليهودية الأمريكية قد تغيرت عما كانت عليه فى الماضى. ولم تعد إسرائيل تستدر ذلك العطف الذى كانت تحظى به فى السابق، وانحسر الحماس تجاهها بشكل كبير، فالأخبار التى ترد من إسرائيل قد هزت بدرجة كبيرة من الصورة المثالية التى ظلت عالقة فى ذهن يهود أمريكا عن إسرائيل.

بل وتضيف ناتاشا أن إسرائيل لم تعد تحتل المرتبة الأولى من الاهتمامات الأمريكية، وتدلل على ذلك بانخفاض إجمالى التبرعات التى أمكن للاتحاد اليهودى المذكور جمعه وذلك بمقدار الثلث عما كان عليه الحال عام 2008 حيث تجاوزت التبرعات حينئذ مبلغ 900 مليون دولار. وتعلل المراسلة ما يجرى حاليا بأن لكل من إسرائيل من ناحية وأمريكا من ناحية أخرى أجندته الخاصة به والمختلفة عن الأخرى.

إذن تغيرت تلك العلاقة الحميمة والمحبة المفرطة بين يهود أمريكا وبين إسرائيل. وتستشعر إسرائيل ذلك دون شك، غير أنها عاجزة عن تغيير تلك الظاهرة فى ظل استمرار تركيبتها الذهنية التى لاتزال أسيرة لها إلى اليوم. إسرائيل تريد الأرض والقدس والمستوطنات، وتريد فى الوقت نفسه السلام مع العرب. معادلة غير قابلة للتحقيق. والواقع أن النظرة الأمريكية الجديدة تجاه إسرائيل ليست إلا حلقة من سلسلة طويلة تمتد عبر القارات. فمن العجب أن نرى الآن تدهور العلاقات بين إسرائيل وبين حلفائها التقليديين. كانت الدول الإسكندنافية حتى وقت قريب من أكثر الدول الأوروبية تعاطفا مع إسرائيل بعد أن عانت من الاحتلال النازى لها طوال فترة الحرب العالمية الثانية فيما عدا السويد التى التزمت الحياد بين الحلفاء من ناحية ودول المحور من ناحية أخرى. ونظرا لموقف السويد هذا المحايد بين المعسكرين المتحاربين فقد آوت إليها أعدادا كبيرة من اليهود خاصة من النرويج.

انظر الآن إلى ما يجرى بين إسرائيل والسويد الصديقة العزيزة، تجرأت صحيفة سويدية، وبناء على معلومات موثقة، على اتهام الجنود الإسرائيليين بسرقة أعضاء بشرية من شباب فلسطينيين ثم إعادة جثث هؤلاء الشبان إلى ذويهم بعد استئصال أعضاء معينة من أجسادهم لصالح إسرائيليين هم فى حاجة إليها!!

هذه الفضيحة ارتبطت بالفضيحة التى تم اكتشافها فى نفس التوقيت تقريبا فى ولاية نيوجرسى الأمريكية التى اتهم فيها حاخامات يهود بل ومسئولين بتهمة الاتجار فى الأعضاء البشرية. وعندما حاولت سفارة السويد فى إسرائيل التخفيف من وقع الاتهامات التى ساقتها الصحيفة السويدية تم توبيخ السفارة السويدية من قبل حكومتها على أساس أن ما نشرته الصحيفة إنما يدخل فى نطاق التعبير عن الرأى ولا دخل للسفارة أو الحكومة فى هذا الشأن.. على الفور قام وزير خارجية إسرائيل ليبرمان ـ لا فض فوه ـ بمهاجمة الحكومة السويدية على موقفها هذا من سفارة تابعة لها وتخضع لإمرتها!

* * *

أما مشكلة إسرائيل مع النرويج فهى أكبر بكثير من مشكلتها مع السويد. كيف تجرؤ النرويج على تأبين كاتب نرويجى هو كنوت هامسن بعد مرور 150 عاما على مولده، وهو الذى عرف عنه تعاطفه مع النازية بل وكتابته لرثاء فى هتلر نفسه. نسى ليبرمان الذى هاجم النرويج أو تناسى أن النرويج عانت الأمرين من الاحتلال النازى لأراضيها طوال فترة الحرب العالمية الثانية. لم يكتف ليبرمان بهذا الهجوم بل أبرز «صحيفة سوابق» للنرويج فى معاداتها للسامية، تضمنت عدم انسحاب مندوبها من جلسات مؤتمر الأمم المتحدة الثانى لمناهضة العنصرية، ديربان 2، مثلما فعل بعض المندوبين. ويتساءل ليبرمان كيف يمكن لبلد مثل النرويج أن ينحط إلى هذا المستوى ويقول بالحرف الواحد «?How low can you go» ويتمادى ليبرمان فى تهجمه فيطالب بطرد المراقبين النرويجيين الدوليين الموجودين فى مدينة الخليل من أجل توفير الحماية لبضع مئات من المستوطنين الإسرائيليين، وذلك بناء على اتفاق بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل عام 1994 (فى أعقاب المذبحة التى ارتكبها الصهيونى المتعصب باروخ جولدشتاين فى الحرم الإبراهيمى وراح ضحيتها 26 مصليا فلسطينيا).

والقصة مع النرويج لم تنته عند ذلك الحد، فقد صعدت إسرائيل من حملتها عليها نتيجة قرار الحكومة النرويجية بسحب كل استثماراتها فى شركة Elbit system Ltd. للصناعات العسكرية الإسرائيلية بسبب ضلوع الشركة الإسرائيلية فى تجهيز الجدار العنصرى العازل الذى أقامته إسرائيل على أراضى الضفة الغربية بأنظمة رصد ورقابة من إنتاج الشركة المذكورة تم تركيبها على الجدار. لا أكاد أصدق أن وزيرة مالية النرويج تعلن أن بلادها «لا تريد أن تستثمر فى شركات تساهم مساهمة مباشرة فى انتهاك القانون الإنسانى الدولى»!. بل وتشير النرويج إلى أن قرارها بسحب استثماراتها فى الشركة المذكورة جاء استنادا إلى الرأى الاستشارى لمحكمة العدل الدولية فى شأن الجدار العازل الذى أصدرته المحكمة عام 2004.

وإليك المزيد.. استدعى مدير عام وزارة الخارجية الإسرائيلية فى شهر أكتوبر سفير النرويج فى تل أبيب للاحتجاج على سحب النرويج استثماراتها فى الشركة المذكورة أو ما يطلق عليه Divestment وبيعها للسندات التى كانت تمتلكها فى هذه الشركة. وأعلنت إسرائيل أنها ستضطر إلى اتخاذ إجراءات فى مواجهة النرويج من جراء فعلتها هذه.

لم أسمع عن أى دولة عربية أو صديقة للعرب أخذت على عاتقها استغلال حكم محكمة العدل الدولية فى شأن الجدار العازل أو تفعيله من خلال أجهزة الأمم المتحدة كما يطالب حكم المحكمة نفسه. ويبدو أننا كنا فى حاجة إلى قيام بلد يقع فى أقصى الأرض ليخطو هذه الخطوة ويضرب لنا المثل، وكأنه يذكرنا بما يجب علينا أن نفعله.

* * *

يكفينى كلاما الآن عن النرويج، وانتقل إلى بريطانيا. والقصة تتلخص هذه المرة فى أن القناة الرابعة فى التليفزيون البريطانى عرضت فى شهر نوفمبر الماضى برنامجا بعنوان «اللوبى الإسرائيلى فى بريطانيا من الداخل». كشف البرنامج ممارسات اللوبى الإسرائيلى وتصرفاته للتأثير على الأحزاب السياسية البريطانية وبالتالى على أصحاب القرار فى البلاد. وتتم هذه الممارسات عن طريق إغداق مبالغ التبرعات على الأحزاب وأعضاء البرلمان لمساعدتهم فى حملاتهم الانتخابية، وعن طريق تنظيم رحلات مجانية لهم لزيارة إسرائيل، وكذلك محاولة التأثير على أجهزة الإعلام.

كان من الطبيعى أن تثور ثائرة الجالية اليهودية على البرنامج والقناة التى بثته، واعتبرت أن البرنامج يحمل كل ملامح معاداة السامية. غير أن أحد مراسلى صحيفة إسرائيلية كتب مقالا يحمل دلالات عميقة حيث ذكر أن المشكلة لا تتعلق لا بالأموال ولا التبرعات التى تغدقها الجاليات اليهودية على أعضاء البرلمان وغيرهم، إنما المشكلة الحقيقية تكمن فى نمط التفكير الإسرائيلى Mind-set، وأن ممارسات اللوبى الإسرائيلى سواء فى بريطانيا أو الولايات المتحدة، إنما إثمها أكبر من نفعها.

ويرى أن إسرائيل إنما تتهاوى فى الواقع ويتفشى بها الفساد على جميع المستويات الأخلاقية والسياسية والدبلوماسية والاقتصادية والعسكرية والدينية، وذلك بسبب استمرار احتلالها للضفة الغربية. وأن تقديم الدعم غير المشروط لأية حكومة تتولى السلطة فى إسرائيل، واتهام المعارضين للسياسات والممارسات الإسرائيلية بالعنصرية أو معاداة السامية يؤدى فى الواقع إلى عدم تخلص إسرائيل من عقدة الحصار siege mentality التى تسيطر على المواطن الإسرائيلى، الأمر الذى يؤخر من اليوم الذى على إسرائيل أن توقن معه بأنه ليسن أمامها إلا الالتجاء إلى خيار عملى وأخلاقى آخر يخالف مسلكها الحالى.

أخيرا، لا أتفهم إلى الآن أسباب عدم إبراز أجهزة الإعلام ما يجرى من حولنا من تطورات على غاية كبيرة من الأهمية تتعلق بعلاقات إسرائيل بأصدقائها التقليديين. ويصعب علىّ بالمزيد التعرف على أسباب عدم مبادرتنا إلى استغلال مثل هذه التحولات الملموسة فى مواقف دول سبقتنا بالفعل فى الإقدام على خطوات عملية لمناهضة الممارسات الإسرائيلية.

ولأن اليد الواحدة لا تصفق، فلابد من أن نقوم نحن بواجبنا أيضا لإشعار الدول التى بادرت باتخاذ مواقف ضد الممارسات الإسرائيلية بأنها معها قلبا وقالبا. كما يتوجب علينا أن نشجع الدول الأخرى على اتخاذ مواقف مماثلة نُصرة للحق وإعمالا للقانون. غير أن نقطة البداية، إذا نحن أردنا أن نتمتع بالمصداقية اللازمة، تظل دائما وأبدا متمثلة فى ضرورة توحيد صفوفنا وتجاوز خلافاتنا من أجل التفرغ لمواجهة قضايانا المحورية.

إيهاب وهبة مساعد وزير الخارجية الأسبق للشئون الأمريكية
التعليقات