لا أحد يجادل بجدية فى أنّ البرلمان الجديد ينطوى على نسبة مرتفعة من التشوه السياسى غير محتملة.
عزوف الناخبين عن المشاركة بالقياس على أى استحقاقات مماثلة منذ ثورة «يناير»، وتغوّل المال السياسى بصورة غير مسبوقة، وغياب البرامج السياسية على نحو فادح؛ يضع مستقبل البرلمان بين قوسين كبيرين.
بعض الصور تشى بالنهايات المبكرة.
أفضل خيار ممكن أن تنخفض فاتورة التشوّه البرلمانى حتى يستكمل مدته الدستورية.
غير أن هذا الخيار يستدعى اعترافا بالأزمة السياسية وطبيعتها وأسبابها.
إذا كان هناك إنكار للأزمة فلا سبيل لأى حوار ولا منفذ لأى اجتهاد.
إنكار الأزمة هو أسوأ ما فيها.
الأزمة فى صلبها سياسية.
تجفيف المجال العام وجه رئيسى للأزمة.
لوثة بعض الإعلام وجه آخر يشكك فى أى توجه ديمقراطى.
التعددية قرينة الديمقراطية والمعارضة من طبيعة النظم الحديثة.
تراجع مستوى الأداء العام وجه رئيسى آخر.
فالسياسات لا بد أن تسبق المشروعات، ووضوح البوصلات من ضرورات حسن الأداء.
بكل حساب الموالاة البرلمانية الزائدة عبء مفرط على الرئيس يعمّق الأزمة السياسية ولا يساعد على حلها.
أى انفلات أخلاقى متوقع هو كارثة بكل معنى سياسى.
فلا توافقات عامة ممكنه ولا اصطفاف سياسيا متاحا ولا أمل فى مستقبل آمن.
الأداء العشوائى تحت القبة يولّد بالضرورة معارضة عشوائية فى الشارع.
عندما تغيب القواعد الديمقراطية وينتهك القانون وتغتال الشخصية فكل شىء محتمل.
ارتفاع منسوب العنف مرجح وعودة جماعة الإخوان المسلمين لا يمكن استبعادهما فى أى مدى منظور.
إذا لم نعترف بالأزمة فإنها سوف تتمدد فى بنية المجتمع وتتململ فى غضب ينتظر مواقيته ليعلن عن نفسه.
بوضوح تشوه البرلمان من تشوه المجال العام.
نحن أمام أنيميا حادة من فقر الأفكار والتصورات والبرامج.
لا طبقة سياسية قادرة على الوفاء بمهامها فى الحكم أو المعارضة، ولا خطاب سياسيا قادرا على الإقناع والتأثير والنفاذ وصناعة التوافقات العامة.
أكثر الأسئلة جوهرية: هل يمكن خفض فاتورة التشوه البرلمانى؟
الإجابة نعم، لكن لكل رهان أصوله وقواعده ومقتضياته.
هناك فارق بين الرهانات السياسية وألعاب القمار.
إذا لم يتم احترام الدستور والعمل على تطبيقه قبل الدعوة إلى تعديله فإن كل شرعية سوف تتقوض، والفوضى سوف تطل برأسها على بلد بالكاد يتعافى.
بحسب معلومات أولية هناك من يحرض على تعديل الدستور فى المشاورات غير المعلنة لتشكيل ائتلاف الأغلبية البرلمانية.
وهذه حماقة أقرب إلى اللعب بالنار.
وإذا لم يتم لجم قوة المال السياسى فى التشريع، فإن السقوط سوف يكون محتما.
قضية العدل الاجتماعى لا يمكن تأجيلها ولا التلاعب فيها دون اضطرابات اجتماعية عاصفة.
بحكم تكوينه البرلمان الجديد معاد فى أغلبه لأى عدل اجتماعى ولا لأى حرب جدية ضد الفساد.
هل ممكن ردع نواب المال السياسى؟
الإجابة بوضوح: نعم، إذا توافرت رؤية سياسية تستعيد شيئا من الرهانات الكبرى فى ثورتى «يناير» و«يونيو».
وهذه مسئولية الرئيس قبل غيره، فالأغلبية البرلمانية الساحقة تؤيده وتفرط فى الموالاة وبعض التأييد خصم من رصيده.
إذا لم يتم ردع المال السياسى وملاحقة الفساد عند جذوره ورءوسه الكبيرة لا يستبعد الدخول فى أزمات كبرى تنال من التماسك الوطنى الضرورى فى لحظة حرب مع الإرهاب.
بكلام آخر، مصير البرلمان مرهون بمدى هذه الاحتجاجات.
حله ممكن بحكم من المحكمة الدستورية العليا ترتيبا على عوار فى القوانين التى نظمت انتخاباته.
وحله ممكن باستفتاء شعبى وفق صلاحيات الرئيس الدستورية صونا للسلم الداخلى.
تغول المال السياسى يرادف تفلت بعض الأمن وبعض الإعلام.
التغول ينحر فى الشرعية بتقويض أى رهانات على العدل الاجتماعى.
والتفلت يؤذن بنحر آخر فى الشرعية، بعودة أشباح الدولة الأمنية وانسداد أى قنوات حوار عام.
العمل البرلمانى هو عمل سياسى ورغم تشوهه فإنه أفضل مائة مرة من غيابه.
وجوده ينشط المجال العام ويخلق معارضة قوية داخله وخارجه ويطرح الأزمة السياسية على مسار جديد.
الأزمة هى الأساس والبرلمان المشوه أحد أعراضها.
فى الأزمة هناك إحباط معلن لكل ما يتحرك فى مصر، من أكبر رأس حتى أبسط مواطن.
الرئيس «عبدالفتاح السيسى» لا يخفى إحباطه، فهو يدعو مرة بعد أخرى بصيغ مختلفة إلى اصطفاف وطنى لا يجده، وأمل فى المستقبل لا يراه فى الإعلام رغم مشروعاته الكبرى التى يتحدى بها التحدى نفسه على ما قال.
أين هو تحدى التحدى فى الأزمة السياسية؟
الاعتراف بها والعمل على تدارك أسبابها ومد جسر الحوار العام بخطة عمل تعرف مقاصدها.
رغم كل تشوه برلمانى هناك فرصة قد لا تعوض لوقف كل نزيف سياسى.
أن يتقدم بخطاب رؤية أو دليل عمل وطنى جديد على أساسه تضع الحكومة برنامجها ووفقه يتشكل ائتلاف الأغلبية.
إذا لم تكن هناك مثل هذه الرؤية التى تعلن عن نظامه وتوجهه، من هو وأين يقف، فإن التشوه البرلمانى سوف يتمدد بأخطر من أى توقع.
إحباط الرئيس هو صدى لإحباط قطاعات واسعة من الرأى العام، لكل منها أسبابها الخاصة.
الطبقة الوسطى المدينية التى تقيم النظم وتسقطها منذ تأسيس الدولة الحديثة عام (١٨٠٥) تعانى إحباطا لا يمكن إخفاؤه.
لهذه الطبقة قضيتان.
الأولى: طبيعة الدولة ومنسوب الحريات العامة بحكم تعليمها المرتفع واطلاعها على العصر.
بحكم تجربة «يناير» و«يونيو» فإنها ترفض أن تكون الدولة دينية أو أمنية وتطلب بإلحاح مدنيتها.
والثانية: خشية تراجع مستويات معيشتها تحت ضغط ارتفاع أسعار السلع والخدمات الرئيسية.
تلك الخشية تضرب بقسوة فى الفئات الأقل دخلا أو الأكثر عوزا.
فى غياب أى فلسفة اجتماعية تساور قاعدة الدعم الرئيسية للنظام الجديد شكوك عميقة بدأت تعبر عن نفسها فى أنات تسمع واحتجاجات تتأهب.
بعض أسباب العزوف عن المشاركة فى الانتخابات النيابية تعود أساسا إلى تراجع الرهانات الكبرى فى العدل الاجتماعى.
هذه أزمة حقيقية تستدعى ترميما عاجلا بسياسات طويلة النفس تؤسس للثقة العامة.
الرؤية أولا وثانيا وثالثا وعاشرا.
أن يكون هناك مجرى رئيسى تتحرك فيه السياسات ويلهم به التغيير.
الأولويات معقدة إلى حد يصعب حلحلتها بسهولة، وترتيب الأولويات مسألة رؤية.
فى النظر إلى المستقبل فإن خسارته مؤكدة إذا لم تسد الفجوة الواسعة بين الدولة وأجيالها الجديدة.
يصعب الاعتقاد بأن برلمانا مشوها سوف يراجع قانون التظاهر ويعدله وفق الالتزامات الدستورية وملاحظات المجلس القومى لحقوق الإنسان.
كما يصعب التعويل على تشريعات يصدرها هذا البرلمان توسع الحريات العامة.
كل تقدم يحسب للرئيس وكل تفلت يحسب عليه.
وهذا وضع غير طبيعى فى أى نظام دستورى يوازن بين السلطات.
غير أن هذه حقائق القوة وحساباتها وتبعاتها.
ربما يتبدى بعض الأمل فى بعض النواب الذين أفلتوا من مقاصل المال السياسى والقوانين التى هندست لكى نصل إلى هنا غير أن المهمة عسيرة.
نجاح المهمة يستدعى مد جسر الحوار العام بكل صراحة وجدية بين المحبطين.