سقوط الأعمدة - إكرام لمعي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 12:28 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

سقوط الأعمدة

نشر فى : الجمعة 7 يناير 2022 - 9:10 م | آخر تحديث : الجمعة 7 يناير 2022 - 9:10 م
من أقوال الملك سليمان الحكيم فى كتابه الأمثال: «إذا سقطت الأعمدة فالصديق ماذا يفعل؟» والمقصود بالصِدّيق هنا الإنسان الحكيم المثقف الصادق، العادل، وهؤلاء الصديقون يُنظر إليهم بأنهم رمانة الميزان فى أى مجتمع من المجتمعات التى يعيشون فيها، حيث تكون لهم كلمتهم، ولهم صدقهم ومعروفون بأنهم قريبون من الله من ناحية ومن الحكماء والعلماء من الناحية الأخرى.. إلخ، من هنا كانت تأتى الخسارة عندما يسقط أحد هؤلاء، فما بالك لو مات اثنان من الحكماء فى أسبوع واحد، الأول فى مصر (د. جابر عصفور) والآخر من جنوب أفريقيا (الأسقف توتو) وبالطبع، الاثنان كانا عمودين حقيقيين قويين دينًا وعلمًا وثقافة، وكما نعلم أن الأعمدة تحمل السقف الذى يهب الظل والأمان، والدفء للمجتمعات؛ حيث تجتمع محتمية تحت هذا السقف، البشر والطيور والحيوانات سواء فى اليوم القائظ الحرارة، أو الشديد البرودة، وتشترك هذه النوعية من البشر فى أدوار تاريخية متشابهة حتى لو لم يكونوا قد التقيا من قبل فى الحياة بطولها وعرضها، لكنهم ــ وللعجب ــ متشابهين وبشدة حتى وإن اختلفوا فى الثقافة أو الدين أو الوطن، لكن من الواضح جدًا قدرتهم الإنسانية على التأثير فى المحيط الذى يعيشون فيه.
وأهم ما يميز هؤلاء العلماء التاريخيون المثقفون هو أن المجتمع والبشر الذين عاشوا فى جيلهم وتفاعلوا معهم لم يعودوا كما كانوا قبل اللقاء بهم.
***
من هنا أنتقى لك ــ عزيزى القارئ ــ اثنين من البشر العظماء مختلفين على المستوى الشخصى فى كل شىء تقريبًا وغالبًا لم يلتقيا إطلاقًا، أولهما د. جابر عصفور المثقف المصرى ووزير الثقافة السابق إلخ، وثانيهما من جنوب أفريقيا رجل دين مشهور ينتمى للكنيسة البريطانية الإنجليكانية (الأسقفية) يُدعى الأسقف توتو، ورغم اتساع الشقة بينهما فى الوطن والدين واللغة ولم يلتقيا فى أى مناسبة جمعتهما، إلا أنهما كانا متفقين فى التوجه الإنسانى تمامًا، أولهما عالم مثقف يدين بالإسلام إلا أن توجهه ليبرالى يتميز بأخلاق سامية وفى ذات الوقت موسوعى الثقافة، أستاذ جامعى، كاتب قدير فى الفلسفة والأدب والسياسة... إلخ، مفكر وباحث أكاديمى ترأس المجلس القومى للترجمة، وكان وزيرًا للثقافة فى أواخر أيامه لفترة معينة، من أهم كتبه كتاب «نحو ثقافة مغايرة» وزمن الرواية، وكذلك «الإعلام صناعة العقول» و«حرب الفن» و«المقاومة بالكتابة»... إلخ وغير ذلك الكثير. تعرفت عليه شخصيًا فى النصف الثانى من الثمانينيات فى مؤتمر للهيئة القبطية الإنجيلية للخدمات الاجتماعية C.E.O.S واشتركنا فى مؤتمرات كثيرة داخل وخارج مصر، اختلف جابر عصفور مع كثيرين فى توجهاتهم الثقافية لكن خلافاته لم تكن إطلاقًا اختلافات مميتة بمعنى طرح الآخر أرضًا أو إهماله ترفعًا، لكنه كان يتحاور مع الجميع بموضوعية شديدة فى حواراته وينتقل من فكرة لأخرى، وقد حرص فى كثير من المواقف على أن يكسب الآخر حتى لو كانت هناك بعض الخلافات فى الرأى.
من الأمور التى توضح شخصيته أنه كان يحرص ــ مع الذين يختلف معهم ــ على أن يؤكد أن الاختلاف مع الفكرة وليس مع الشخص، وأن الاختلاف لا يفسد للود قضية، وكانت من أهم ملامحه الاحتفاظ بالاحترام والمودة والأخوة مع الجميع رغم الاختلافات العميقة مع البعض، ومن الواضح أن معظم الذين تعاملوا معه واختلفوا معه فى الرأى أو التوجه اعتبروا أن موته خسارة فادحة للأدب والسياسة، خاض جابر عصفور عدة معارك فكرية على مدى سنوات عمره انتصر فى معظمها، وفى بعضها كانت ثمن انتصاراته ليست هينة، مثل الجروح التى أصابته من (الجماعات المتطرفة)، بل كانت له معاركه القوية مع الأزهر نفسه، ولقد حاز على احترام معظم الذين كانوا يحللون مواقفه وأقواله والتعليق على ما يقول.
***
فى السبعينيات من العمر قَبل جابر عصفور منصب وزير الثقافة، وكان قبوله لهذا المنصب بعد معاركه الثقافية والسياسية الساخنة بمثابة إلقاء مياه باردة على معظم أصدقائه الذين يحترمونه، ووقفوا معه فى آرائه وتوجهاته، إلا أنه فجأة قبل بعض ما كان يعارضه من أفكار وأشخاص بسبب المنصب الحكومى، وقد تحدثت معه بهذا الشأن وكان جوابه أنه يريد الإصلاح!! لم أحاول أن أعلق لأنه كان دائمًا يتحدث عن «الوعاء الذى فسد» وأستخدم تعبير «فسد الوعاء» وهذا التعبير من الكتاب المقدس حيث يعبر عن مثل الفخارى الذى يصنع أوانٍ من الطين ويضعها بعد تشكيلها فى الفرن، وبعض من هذه الأوانى كان ينكسر لسبب أو آخر، فيلقيه الفخارى فى المذبلة لأنه لا يصلح لشىء، وكان يستخدم هذا المثل «فسد الوعاء» كلما تحدثنا عن حالة الثقافة فى مصر، لذلك كانت صدمتى لقبوله منصب وزير الثقافة، والحقيقة أنه أفاق بعد أن خرج منها خاسرًا خسارة فادحة؛ حيث لم يستمر سوى عدة أيام قليلة.
كان جابر عصفور بمثابة الأب للشباب والأخ للرجال المثقفين المحيطين به وكان الجميع ينظرون إليه كنموذج أو كما يقولون أيقونة النقد الأدبى، وكان الكثير من الشباب المحيط ينتظر مقالاته ويقرأها بمنتهى الدقة والعناية ويتمنى أن يقدمها للجماهير وقد حدث بالفعل مع البعض، لكن ليسوا كما كانوا يتصورون أنه يمكن أن يفعل ذلك من أجلهم، والحقيقة هذه كانت شكوى كثير من الشباب كالعادة المصرية.
***
لا يمكن لأحد ــ يعرف جابر عصفور حقيقة ــ القول إنه تنازل فى يوم من الأيام عن التنوير من ناحية أو أخرى، لكن المشكلة أنه فى الوقت الذى صار فيه قريبًا من السلطة الديكتاتورية الغاشمة، جعل معظم أصدقائه يتحيرون فى تفسير بعض تحركاته وأحاديثه فى السنين الأخيرة، وكان هذا مؤشرًا على انتقائه لمن يريد الجلوس معهم والحديث إليهم دون جراحات أو ذكريات هو لا يريد تكرارها، والمشكلة الحقيقية لمثل هؤلاء العظماء أنه عندما يأتى الوقت ويصيرون محسوبين على السلطة، هنا تثار إشاعات ضخمة من حولهم وعادة تكون ليست فى صالحهم، وكان د. جابر دائم الحديث بمناسبة وغير مناسبة عن أنه لم يُغَّير جلده أو فكره... إلخ. لا شك أن حرص جابر عصفور على التواصل الكثير والمنتظم مع الأجيال الأصغر جعله يتعرض لانتقادات متنوعة بحسب توجهات الجيل الذى يتعامل معه، فهو كان يتواصل فى وقت واحد ليس مع جيل أو اثنين أو حتى أربعة وخمسة، وبالطبع ليس كل الأجيال لها نفس القناعات، وهنا كان يحدث نوع من التوتر والاضطراب، ولقد كان لوجود فاروق حسنى ــ وزير ثقافة مبارك ــ بجوار جابر عصفور، مكسبًا لحسنى خسارة لعصفور.
لكن أصالة الشعب المصرى وعواطفه الجياشة نحو قيادته تعطى دائمًا مساحات للقبول والرفض والأخذ والعطاء وبلا شك أن بصمات جابر عصفور لن تبرح من فكرنا أو تنسى، والذى يُنسى هو كل ما نريد أن ننساه، ويبقى الرمز والمعلم.
إكرام لمعي  أستاذ مقارنة الأديان
التعليقات