الصندوق - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 10:54 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الصندوق

نشر فى : السبت 7 يونيو 2014 - 6:35 ص | آخر تحديث : السبت 7 يونيو 2014 - 6:35 ص

ذات يوم غير بعيد، ظهر صندوق زجاجى متوسط الحجم، تُرَى بداخله أرففٌ كثيرة تحمل عشرات الكتب، وعلى جدرانه الشفافة عبارة متكررة باللون الأبيض: وزارة الثقافة، صندوق التنمية الثقافية. احتل الصندوق مساحة صغيرة داخل ناد رياضى قديم يقع بالقرب مِن مسكنى، اعتدت أن أقضى فيه أوقاتا للكتابة.

حين انتبهت لوجود الصندوق للمرة الأولى، كان بابه مفتوحا، وعلى مقعد بلاستيكى خفيف بداخله، جلس رجل متوسط العمر متكئا إلى منضدة بيضاء، وأمامه أوراق ودفاتر تشبه إيصالات البيع والشراء. دلفت إلى المساحة المحدودة ولم يكن مِن زبائن غيرى، كان مرأى الكتب المرصوصة جنبا إلى جنب مبعث فضول دائم بالنسبة لى، عامل جذب لم تنل منه فوضى المكان ولا هزه فقر العرض.

للحق؛ مَثَّلَ اكتشافى للصندوق مفاجأة سعيدة، ولسعادتى تلك حصلت منه على كتب لا لحاجة حقيقية إليها، بل كى أؤكد وجوده وأثبته، ولرغبة طفولية ساذجة غمرتنى وقتها، فى بعث رسالة إلى المسئولين تفيد بأن صندوق الثقافة الذى زار نادينا ـ ربما عن غير قصد ـ يعمل، ويبيع، أن قسما من أعضاء النادى لاحظه واهتم به، وأن هناك زبائنا صاروا فى حاجة إليه وإلى بضاعته، تماما كحاجتهم إلى أكشاك البطاطس المقلية والزلابية والكريب التى غزت غالبية النوادى الرياضية، وزحفت خارج أبوابها إلى أرصفة الشوارع، وانتشرت فى أحياء عديدة لتغازل بروائحها المثيرة أنوف وبطون المارة.

•••

انقَطَعت فترة عن الصندوق لمشاغلٍ تكالبت علىّ، ثم عُدت لأجده مُوصَدا. يوم واثنان، أيام كثيرة، أسابيع وشهور، اكتست الجدران الزجاجية بالأتربة، ثم بأوساخ لزجة أخفت الأرفف والكتب عن الناظرين، وخلال فترة الموات تلك، ازدان الباب المغلق بملصقٍ لطيف ينبئ الزوار بعلاج فعَّال وأكيد لتساقط الشعر، كنت أضحك مستخفة بالملصق كلما طالعته، لكنه تشبث بمكانه زمنا أطول مما توقعت.

مع التَغَيُّر النشط الذى دب فى أرجاء النادى ومحاولات التطوير؛ ظهرت علبة غريبة بجانب صندوق الثقافة، لها أضواء وألوان كثيرة لامعة، ولم تلبث أن اصطفت أمامها طوابير من الأطفال وانبعثت حولها ضجة هائلة وأصوات عالية لا يمكن تمييزها. العلبة الحديثة التى غلب عليها لون أحمر قان، توسطتها بوابة مغرية على شكل دائرة فضية كاملة، بينما حملت جوانبها عنوانا من أحرف وأعداد أجنبية «9D Simulator» تدل على لعبة من ألعاب المحاكاة الشهيرة التى يتصارع الأطفال على ولوجها.

•••

زرت الصندوق مرات متتالية دون فائدة، سألت فى إحدى الزيارات أصحاب مَحَال الملابس والمأكولات المجاورة، فقال أحدُهم إنّ موظفين اثنين كانا يحضران إلى المكان لكنهما اختفيا منذ أشهر، وقال آخر أن الصندوق يفتح يوميا فى الحادية عشرة صباحا ويغلق فى الواحدة ظهرا، قال ثالث إنّ الموظفين يأتيان بين الحين والآخر دون مواعيد محددة، وقال رابع إنّ المسئولين عن المكان لم يظهرا منذ أسبوع على الأقل، بينما أكد خامس ألا علاقة تربطه بهما على الإطلاق، وعرض أن يحضر لى كتبا مع البضائع التى يجلبها مِن وسط المدينة. لاحظت أن إعلان تَسَاقط الشعر اختفى، ربما بفعل عوامل التعرية، بينما بقى الزجاج مُضَبَّبا.

•••

مذ أيام قليلة مررت كعادتى التى تأصلت منذ ظهور الصندوق، أتابع ما قد يَجِدُّ عليه من تغيير، جُلت ببصرى فى المكان فبدا لى شاحبا مسكينا بين بناءين متألقين؛ علبة الألعاب الإلكترونية الملونة، ومتجر سابق الوجود تخصص فى عرض أنواع وأشكال مِن المنتجات الغذائية الجافة. رأيت عائلة تسير باتجاه الصندوق؛ أب مُتَمَهِّل مُتَراخٍ، وأم تصدر أوامرها التقليدية فى مَلَلٍ واضح، بينما الصغار يمدّون خطواتهم فى حماسة. ما إن اقتَرَبَت العائلة حتّى صاح الصبى الأصغر عمرا: «الحمد لله.. فاتح.. فاتح». رفعت رأسى مسرعة إلى الباب فوجدته مغلقا كعهدى به. عدت ببصرى إلى الطفل فألفته يعدو نحو العلبة الملونة ويختفى داخلها.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات