وَلَاء - بسمة عبد العزيز - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 8:40 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

وَلَاء

نشر فى : الجمعة 8 فبراير 2019 - 7:40 م | آخر تحديث : الجمعة 8 فبراير 2019 - 7:40 م

"لا أبتاع إلا ما اعتَدت عليه؛ شوكولاتة مِن نوعٍ مُحدَّد، وبمذاقٍ مُحدَّد". أصرَّت على موقفِها بحسمٍ، رافضةً البدائل المُتاحة، مُعلنة أن هذا هو أفضل مُنتَج عرفته على مدار سنوات عمرها؛ ولا تزال مُحتفظةً بولائها له رغم مرور الزمن، لا تثقُ في غيره ولا يسعدها إلاه.
***
يبدو ولاءُ المُستهلِك لعلامةٍ تجارية مُعينة؛ بمنزلةِ أمر مُعتاد، خاصةً في أجيالٍ تربَّت على وجود تنويعاتٍ قليلة، يسهُل الاختيار مِن بينها، بلا حيرةٍ ولا إفراط. هذه علامةٌ تجاريةٌ تعبِّئ أرزًا مِن النوع الممتاز؛ له حبةٌ مُكتمِلة تنضج بسهولة، وتلك علامةٌ أقلَّ جودة في مُنتجاتِها، يَمتَصُّ أرزُها الماءَ فيصبح كما الهريسة. هذه علامةٌ مَشهود لأدواتِها الكهربائية بالكفاءة، وتلك لا تصمُد سوى شهور مَعدودة.
***
قد لا يتجه الولاء للعلامة التجارية وحدها؛ فبعض الناس يتمسَّكون على سبيل المثال ببائع اللبن الطازج، يتشبثون بمظهره الفريد، وإنائه الضخم؛ يحمله باردًا، ويصب منه بمعيار لا يخطئ التقدير. لا يحب هؤلاء الألبان المُعلبة، ولا يتذوقونها، ولا يقنعهم إلا وجود طبقة القشدة المتماسكة على السطح، بعد تمام الغليان.
***
يكون الولاءُ لشخصٍ أو شيء؛ لقائد أو تاجر، لمَحَلِّ عملٍ أو أرض، ولاءٌ لعقيدةٍ أو فِكر. الولاءُ للقيمة والمبدأ أسمى ولا شكَّ وأرفع؛ فالأشخاص عرضة لتبدل الحال، أما القِيم والمبادئ المُطلقة؛ فثابتة، لا تُخادع أو تُداهن، لا تحركها المَصالح، ولا يعتريها في لحظة مِن اللحظات عجزٌ أو قصور. يختلف مَفهوم الولاءِ تفسيرًا وتعريفًا؛ لا يتباين معناه مِن مُعجم لآخر، إنما ينظر له الناسُ مِن مَواقعهم؛ ويعيدون تعريفه، بما يناسب الظرفَ والعصرَ، وبما يتواءم مع المَمنوعِ والمَقبول.
***
تحمل المَعاجمُ العربية معانٍ عدَّة للولاء؛ إذ هو القُربُ، وكذلك هو الطَّاَعَة والإِخْلاَص، كما يذكر مُعجَم المعاني الجامع مُصطلح ”ولاء العتق“؛ مُعرفًا إياه بالصلة القائمة بين المَولى والعبد المُحرَّر، استنادَا لما أنعم به الأول على الثاني؛ بأن فكَّ قيده وأحلَّه مِن ذُلّه. الولاءُ لفلان يعنى نُّصرته ومُساندته، والمُوالاةُ نقيضُ المُعاداة، والمُوالون لشخصٍ هم أنصاره المُطيعون، ومنها يُقال إن فلانًا أدّى فروضَ الولاءِ لزعيمه. وَلِيَ الوالي البلدَ؛ أي اضطلع بشئونها، ووَليّ النِعم هو صاحبها، والجمع مِنها أولياء، ويُقال أولياءُ الدم؛ في إشارةٍ لمَن لهم حقُّ المُطالبة بالثأر أو القَصاص.
***
عادة ما يقع الولاءُ مَوقعًا طيبًا مِن آذان السامعين؛ إذ يعكس ما حملَ صاحبُه مِن إخلاصٍ، والتزامٍ بالعهد؛ لكن هاتين القيمتين الإيجابيتين في ظاهرهما، قد تنقلبان سلبًا، حين تختل بوصلةُ الطريق، وينحرف المسار. على كل حال؛ لا يُعطى الولاءُ للآخرين عماءً، ولا يستقيم الإخلاصُ بغير تبصُّرٍ وإدراك، وفي هذا المقام، يُدان مُرتكبو الجرائمِ الكبرى بُناءً على القانون الدوليّ؛ لا يحميهم مِن العقاب انتماءٌ، ولا يحصنهم التذرع بولاءٍ أو طاعةٍ لأولي الأمر.
***
يكاد الولاءُ للوطن أن يكون فعلًا غريزيًا. يدافع الناس عن أرضهم، ومَوضع عيشِهم وذكرياتِهم، ومكانَ مَولدهم ومَولدِ آبائهم؛ دون أن يفكروا طويلًا، ودون أن يأبهوا للتبِعات. التضحيةُ في سبيل الوطن، ورفع رايته كرمزٍ أصيل، مُتجَذِّر في الوعي؛ سلوكٌ طبيعيٌّ، لا يختلف عليه الناس، والقسم الذي يؤديه العسكريون في سياق الجندية؛ شرقًا وغربًا، يحمل كلمات واحدة ومَضامين متشابهة، وبالمثل يتشابه قَسَم الولاء فيما يتعلق بالرؤساء؛ يردد رئيس الجمهورية المصريّ على سبيل المثال: "أقسم بالله العظيم أن أحافظ مخلصًا على النظام الجمهوريّ، وأن أحترم الدستور والقانون، وأن أرعى مصالح الشعب رعاية كاملة، وأن أحافظ على استقلال الوطن ووحدته وسلامة أراضيه".
***
ثمَّة مَن يختارون الانتقال إلى مَوطِن جديد، حيث يحتاجون إلى إثبات ولاءهم كمواطنين مُخلصين، عبر أداء القَسَم. يُقسم طالبو الجنسية الأمريكية مثلًا؛ على الولاء للعَلَم، وللولايات المتحدة، وللمبادئ الجمهورية التي بُنِيَت عليها كأمة واحدة غير مُقسَّمة، يحظى فيها الجميع بالحرية والعدالة. يتكرر هذا المحتوى بدوره مِن بلد لآخر؛ ربما بقليل مِن الاختلافات.
***
يُساءُ استخدامُ الولاءُ بصورة متكررة؛ عن غير قصد مرة، وعن عمد وإدراك مرات ومرات. كُلُّ خارجٍ على القطيع؛ قد يصبح في عرف أفراده عديمَ الولاء، وكل مُتريِّث أمام حركةِ الجموع الجارفة؛ قد يُعد ناقص الولاء، وكُل مُمتنع عن تقديم علامات وقرابين الولاء؛ يمكن تشويه صورته بما يجعله خائنًا في أقسى النعوت، وفي أخفها؛ مُفتقرًا إلى الحسّ الوطنيّ السليم.
***
يُقِر عديدُ الناسِ أن مِن الولاءِ لربِّ العمل؛ عدم مُعارضته بصورة فاضحة، وتحاشي انتقاده، وأن مِن علامات الإخلاص له؛ مساعدته على الاحتفاظ بمنصبه، بغضِّ النظر عن كفاءته ومَسلكه، لكن الأمور لا تجري دائمًا على هذا المنوال. منذ أسابيع قليلة؛ اعتلى وزير الخارجية الأمريكي منصة الجامعة الأمريكية لإلقاء كلمة، وأثار الحدثُ مزيجًا من الضيق والرفض والاستهجان؛ إذ لم يكُن مِن الحصافة أبدًا تسييس الجامعة باستضافته، وتطويعها لإرادته حتى النخاع. الولاءُ المُفترض حضوره، لم يمنع أعضاء هيئة التدريس أغلبهم مِن التصويت ضد رئيسهم؛ بما يُمهّد لاستبعاده التام من المكان.
***
في معترك الحياة وغمارها، هناك مَن يتكاسل عن التفكير، ويمنح ثقته وإخلاصه لكل عابر، مُولِّيًا وَجهَه شطر الحائط، وهناك أيضًا مَن يضنَّ بولائه متشككًا في الجميع، وبين هذا وذاك يقع من تتقاذفهم الأمواج وتتلاعب بهم المُقدرات والظروف، دون أن يتمكنوا مِن الانضمام لأحد الطرفين.

بسمة عبد العزيز طبيبة وكاتبة
التعليقات