صباح الخير ياجاري - بلال فضل - بوابة الشروق
الجمعة 3 مايو 2024 5:42 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

صباح الخير ياجاري

نشر فى : الإثنين 8 يوليه 2013 - 9:50 ص | آخر تحديث : الإثنين 8 يوليه 2013 - 12:23 م

كل يوم قبل صلاة الفجر بعشرة دقائق تقل قليلا أو تزيد قليلا، أسمع صوت باب شقة «أبو يحيى» يفتح ثم يغلق بكل مايتسر من هدوء، لم أسمعه ولو لمرة يذكر الله بصوت عال وهو يستدعي الأسانسير أو وهو يفتحه عند عودته إلى شقته، دائما أشعر أنه حريص على عدم إيقاظ أحد أثناء ذهابه إلى المسجد وعودته منه.

 

أبو يحيى بسم الله ماشاء الله يصلي الصلوات الخمس في المسجد «حاضر»، ومع ذلك فهو ليس متشددا ولا متطرفا، لا تسألني كيف تأكدت من ذلك؟، فنحن لم تدر بيننا أبدا أي مناقشات فكرية أو دينية، لكنك  أصبحت في مصر الآن تستطيع أن تدرك بسهولة التدين المصري الوسطي الذي يرتقي بأخلاق صاحبه ويزيده تحضرا وإنسانية، فتميزه عن التدين المتصحر المتجهم الذي يزيد أحيانا صاحبه إنحطاطا وغلظة. 

 

أسرة «أبو يحيى» من ذلك النوع من الأسر التي تعودنا أن نسمع من أهالينا في وصفها تعبير «ماتسمع لهمش صوت»، لا أذكر أنني سمعت ضجة تأتي من نواحي شقتهم إلا في المناسبات السعيدة، وللأمانة لا تكون أبدا ضجة مبالغا فيها، بل تشعر أنها ضجة محترمة من ذلك النوع الذي يدخل السرور إلى القلب.

 

لا أعرف إذا كان «أبو يحيى» سيقرأ هذا الكلام، ربما تشجعت للكتابة عنه لأنني أظن أنه لن يقرأه، فأنا لم أره يوما متلبسا بوضع صحيفة تحت باطه، ربما كان يقرأ الصحف على الإنترنت، فنحن مشتركان سويا في خدمة الدي إس إل، ومع أنني أنسى منذ أشهر دفع نصيبي من إشتراك الخدمة إلا أنه لا يذكرني بذلك أبدا، وكلما تذكرت وذهبت لأدفع وأنا غارق في خجلي، يزيدني غرقا وهو يقول بأدب من ذلك النوع الذي هو أدب بالفعل وليس تلزيقا ينتحل صفة الأدب «خلاص مافيش مشكلة والله».

 

لم أخذل أبا يحيى فقط في الإنتظام في دفع إشتراك (الدي إس إل)، بل خذلته أكثر من مرة عندما حاول أن يشركني معه في سعيه لإصلاح بعض شئون العمارة، لكنه في المقابل لم يتوقف عن المبادرة إلى لفت إنتباهي لأكثر من مرة إلى مشاكل تتعلق بمواسير شقتي برغم أنها لا تؤثر عليه مباشرة بقدر تأثيرها على من هم أسفل مني، وفي كل مرة كان يحرص على أن يُشعرني أنه اكتشف تلك المشكلة بالصدفة.

 

لم أشعر أن سلبيتي وطناشي وتعللي الدائم بالإنشغال عن مساندة «أبو يحيى» قد خيبت أمله فيّ، بقدر ماشعرت بخيبة الأمل تلك عندما تخانقت يوما مع أحد الجيران، وتسببت غتاتة الجار في إتفجار ماسورة شتائم من فمي، لكنها توقفت عن الإنفجار فورا بعد نظرة صدمة لمحتها في عيني أبو يحيى، لأتحول من شاتم إلى مبرراتي لما صدر عني من شتائم بالفعل، ومنذ ذلك اليوم توقفت عن الخناق مع ذلك الجار، وحتى عندما أفكر أحيانا في إشعال خناقة عاتية معه، أستعصم بالصبر لأنني لا أريد أن أخيب أمل «أبو يحيى» فيّ مجددا. 

 

للأسف أصبحت أعاني من مشكلة في تذكر الأسماء، ولذلك كنت أحيانا أنسى إسم «أبو يحيى»، مع أنني لم أنسى كنيته أبدا، ومع ذلك كلما رأيته أشعر بألفة بالغة تجمعني به أكثر من أصدقاء ورفاق طريق أحفظ أسماءهم الرباعية.

 

سأدهشك أكثر، أنا مثلا أعرف أن «أبو يحيى» منذ عام وربما أكثر صار على المعاش، لكنني لم أعرف أبدا أين كان يعمل أبو يحيى، ولا ماذا كان يعمل، فلست من الذين يحبون التطفل على جيرانهم، لكنني أحسب أن أبا يحيى كان رجلا شريفا جدا طيلة مشواره المهني، وأنه كان قطعا مخلصا في عمله، وأنه لم يتلوث بفساد أبدا، ولم يأكل حراما يوما ما، ولم يظلم أحدا مطلقا، ليس لأنه فقط يصلي الفجر في المسجد، بل لأنك لو كنت جارا له ستعرف ذلك وستكون مثلي متأكدا من ذلك بعون الله، فالمال الحرام ينضح على كل شيئ في البني آدم بدءا من سحنة وجهه و»تون» صوته، ووصولا إلى ذوقه في إختيار الزينة التي يضعها أمام باب شقته.  

 

ربما كان أبو يحيى يعرف ما أفعله في الحياة، وربما لا، فهو لم يحدثني أبدا عن فيلم شاهده لي أو مقال قرأه أو برنامج ظهرت فيه، ولم يفاتحني أبدا في موضوع بخصوص أي شيئ، ولم يفكر في طلب شيئ مني، مع أنه لو فعل لخدمته بعينيّ، لكنني أشعر دائما أنه نموذج للإنسان الذي لو قال لك «أنا مش عايز حاجة من حد» فهو يعني ذلك بالفعل، ولن يتبع جملته بقوله «بس إنت مش أي حد».

 

إبنتي الصغرى كلما جاءنا ضيف تشير إلى باب الشقة المقابلة وتقول له بفخر شديد «إنت عارف مين اللي ساكن هنا.. أم يحيى»، فأم يحيى كزوجها تماما مقترنان بالخير في وجدان كل من يعرفهما، اللسان الطيب، المقابلة الحلوة، والبِشر الدائم في وجوه الأطفال والكبار، ومفهومهما لواجب الجيران مع بعضهم لم أشهده من قبل إلا في مسلسلات عمنا أسامة أنور عكاشة، أحيانا لا آخذ بالي أننا «دخل علينا موسم»، إلا عندما أجد زوجتي وقد دخلت عليّ بطبق عاشوراء أو كنافة أو بليلة أو فتة أو كعك لتقول لي بتأثر «أم يحيى باعتاه وبتقول كل سنة وإنتو طيبين..

 

أنا مش عارفه أعمل إيه مع الست الجميلة دي»، وبعد أن نأكل بتلذذ من عمايل إيد أم يحيى، نعقد على الفور جلسة مباحثات للتوصل إلى وسيلة حاسمة يمكن لها أن تجعلنا نتغلب على لطف هذه العائلة وذوقها، وحتى الآن لازال لدينا أمل في أن ننجح في ذلك قبل دخول الموسم القادم.   

 

في الصيف الماضي لم أحضر زفاف إبنة «أبو يحيى» لأنني كنت مسافرا، لكنني كنت سعيدا جدا لأن جاري المحترم أدى جزءا من رسالته في الحياة، قلت له هاتفيا أنني أتمنى أن يرزقه الله الصحة والعافية لكي أعزمه على فرح بناتي بقلب جامد، ربما تخيل أنني أجامله، لكنني والله كنت صادقا فيما تمنيته لأن الفرح سيمثل بالتأكيد فرصة سانحة لكي أسأله ونحن على ترابيزة بعيدة عن الدوشة «ألا صحيح يا أبو يحيى حضرتك بتشتغل إيه.. ده لو ماكانش سؤالي يضايقك». 

 

صدقوني، لا يمكن أن تضيع مصر طالما ظل فيها أمثال «أبو يحيى»، لكن هل يتوقف حكامها عن تضييع الملايين من «آباء يحيى» ودفعهم إلى الإنقراض، هذا هو السؤال الذي يتوقف عليه مستقبل مصر؟.

 

(من كتاب «ست الحاجة مصر» الصادر عن دار الشروق ـ نشرت للمرة الأولى في ديسمبر 2010)

 

belalfadl@hotmail.com