شفايف ليلى مراد - داليا شمس - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 9:45 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

شفايف ليلى مراد

نشر فى : السبت 8 أغسطس 2020 - 8:40 م | آخر تحديث : السبت 8 أغسطس 2020 - 8:40 م

اتسعت ابتسامتها. ظهرت أسنانها البيضاء اللامعة، صفان من اللؤلؤ كما كان يقول الناس. تمردت على الفم الذي حبتها به الطبيعة والذي كان يُشَبه بخاتم سليمان. لم ير أحد منا هذا الخاتم لكنه دوما ما استخدم للدلالة على صغر تقاطيع المرأة الجميلة التي قيل أيضا في وصفها "الفم مثل التوت والخصر منحوت". أحيانا كان يتسلل إلىّ شعور أن شفاه ليلى مراد بحمرتها المميزة وبالطريقة التي رسمتها بها وهي في أوج شهرتها تندرج تحت محاولات التمرد على الملامح الطفولية والجسم النحيل التي ظهرت بهم في بداياتها. امرأة في مقتبل العمر، بيضاء، شعرها أسود، عيناها خضراوان، أرادت أن تكون فاتنة في كل شيء وخاصة أناقتها. بَرْوَز أحمر الشفاه رغبتها في تأكيد أنوثتها، لكنه لم ينجح في محو مسحة الحزن الخاطفة في عيني ليلى الخجولة التي كانت تخاف من مواجهة الجمهور على المسرح. شجن ورِقة أضيفتا إلى عذوبة الصوت، وكانت النتيجة أسطورة في الغناء قررت الاعتزال والانسحاب مبكرا من حياتنا عام 1955، وهي في السابعة والثلاثين من عمرها.
***
راحت أيام وجاءت أخرى، وصارت في العشر سنوات الأخيرة تقريبا الشفاه الغليظة والممتلئة من مقاييس الجمال التي تسعى وراءها النساء. لم يعد تحديد ورسم الشفايف على طريقة ليلى مراد كافياً، بل أصبح من السهل اللجوء إلى الحَقن والعمليات الجراحية للحصول على شفاه أنجلينا جولي أو فم كيم كارداشيان. لكل عصر أيقونات جماله، لكن ظلت نجمات الشاشة هن المثال الذي يحتذى به. وفي مراحل تاريخية سابقة كان التعرف على مقاييس الجمال يتم من خلال أعمال كبار الرسامين مثل روبنز في عصر النهضة ولوحاته التي تصور نساء بوجوههن البيضاوية وأجسامهن البضة الشهوانية، كانت تلك سمات من يوصفن بأنهن مثل القمر وقتها، شقراوات بفساتين تكشف عن نهدين متحفزين مثل فتيات بوتيتشلي. نتجول بين نموذج ماري أنطوانيت والأميرات الفرعونيات بأجسادهن الممشوقة وسيقانهن الطويلة واليونانيات صاحبات الأجسام الرياضية والشفاه المدهونة بالحمرة خاصة الغانيات. ثم ننتقل إلى القرن العشرين بحربيه العالميتين اللتين غيرتا مقاييس الجمال حول العالم، فبعد الحرب الأولى ظهرت الغُلامة ذات الشعر القصير والأرداف والمؤخرة المسطحة، أما في أعقاب الحرب الثانية فقد كان تتويج مارلين مونرو على عرش الفتنة والغواية بكل ما تمثله من تضاريس. خلال الحربين أعتبر أحمر الشفاه رمزا للتحرر والقوة، فحين ذهب الرجال إلى القتال وانطلقت النساء إلى سوق العمل وارتدين ملابس جريئة أحيانا أو شبيهة بالرجال أحيانا أخرى كان التركيز على أنوثتهن من خلال الإبقاء على شفايف شهية كالكرز، بل أصدرت إليزابيث أردن أحمر شفاه عرف باسم "أحمر الانتصار"، عام 1941، ليتماشى مع لون زي المتطوعات في الجيش الأمريكي. في مكان ما أحمر الشفاه هو بمثابة عنوان لمأساة النساء وحيرتهن عبر العصور، حتى حين كان دليلا على خيانة الرجل وهو يبرر وجود آثاره على ياقة القميص.
***
يتبرجن. يحاولن الجري وراء الشكل الجديد. ينظرن إلى بدايات الخطوط حول الشفاه. تُسرع الكثيرات لمحو علامات الزمن الصغيرة التي تتمركز أعلى الجبهة أو حول الفم. مناطق حساسة، الجلد فيها رقيق، وتشير إلى المسكوت عنه، إلى العمر الافتراضي الذي حدده لها المجتمع والذي تتحايل لكي تتجاوزه. تتوجه بعضهن إلى أطباء وغرف التجميل لكي تطلب وتتمنى: أريد أنفاً صغيراً ومستقيماً، وفماً مبالغاً فيه، ومؤخرةً صلبة نافرة، ففي الآونة الأخيرة لم يعد "البيض" فقط هم من يضعون مؤشرات الجمال، بل أصبح للشعوب اللاتينية وأصحاب البشرة الملونة حظ وافر. صارت المعايير المحددة عالميا للجمال أكثر انتشارا بسبب الوسائط الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي، فهي لم تعد تقتصر على شاشة السينما أو التليفزيون والتماثيل والرسومات، بل هناك صور الانستجرام على سبيل المثال التي تجعل الكثيرون والكثيرات يتطلعون إلى نموذج كيم كارداشيان كحلم الرجال والنساء على حد سواء، بعد أن كانت مقاييس العروسة "باربي" هي الجمال المبتغى في فترة التسعينات.
كله يتغير ونحن نلهث وراء هذا التغيير، نسعى أن نكون مجرد أشياء ضمن أشياء أخرى كثيرة. راودتني كل تلك الأفكار وأنا جالسة أمام شاشة التليفزيون أراقب مغنية شهيرة وقد حددت شفتيها بالمساحيق المختلفة لتكبيرها وصارت أشبه بدراكولا مصاص الدماء، خاصة بعد أن وشمت حاجبيها وغمقتهما لتزيد من كثافتهما. أتذكر آخر مرة وضعت فيها أحمر شفاه، قبل أشهر الحظر والكمامة وتبعات الكورونا، فنحن في زمن تكميم الأفواه والمعدة ونفخ الشفايف. ابتسمت بألم وقد جنح خيالي إلى هذه المدينة الصغيرة الرائعة، على ساحل المتوسط، حيث كانت تحدد معالم ومقاييس الجمال في العالم العربي خلال السنوات الأخيرة، تم هدمها ولم يعد بوسعها أن تتنفس تحت الركام والرماد، صارت بحاجة إلى قُبلة حياة، وليس هناك من مُنقذٍ بريء. اتسعت الابتسامة، لكنها لم تبدد الحزن.

التعليقات