إذا كانت إمكانيات قيام مشاريع عربية مشتركة كثيرة ومتنوعة فى حقل الاقتصاد، كما بيّنا فى مقال سابق، فإن الأمر ينطبق بصورة أكبر فى حقل العلوم والتكنولوجيا. هنا توجد إمكانيات هائلة وواعدة ومتنامية.
سأسرد مثالين تحقّقا فى الواقع العربى؛ أحدهما على المستوى القومى الشامل، والثانى على مستوى إقليم الخليج العربى.
ففى منتصف السبعينيات من القرن الماضى كان مجلس وزراء الصحة العرب ومجلس وزراء الصحة فى الخليج العربى يجتمعان دوريًا وينسقان نشاطات وزارتيهم ومواقفهما الدولية. وكانت إحدى الشكاوى هجرة العقول الطبية التخصصية العربية إلى خارج الوطن العربى عندما يذهبون إلى الخارج للتدريب أو لأخذ شهادات التخصصات العليا.
عند ذاك تقدمت البحرين إلى وزراء الخليج بمذكرة تقترح فيها تكوين المجلس العربى للاختصاصات الطبية والاعتراف به كجهة تدريب للاختصاصات الطبية العليا وكسلطة تمنح شهادات تلك الاختصاصات بعد إجراء امتحانات تشرف عليها.
ولقد أقر الوزراء الاقتراح وتم رفعه إلى مجلس وزراء الصحة العرب لتبنّيه هو الآخر. وخلال بضعة شهور تمت كل المداولات وولادة المجلس العربى للاختصاصات الطبية الذى بدأ عمله بإعطاء تدريب وامتحانات وشهادات فى أربعة تخصصات، ازدادت تدريجيًا حتى وصلت إلى حوالى خمسين تخصصًا. ولقد تخرّج عبر النصف قرن ذاك عشرات الألوف من الأطباء الأخصائيين العرب وعملوا فى طول وعرض الوطن العربى كله.
ما كان لذلك المشروع القومى أن ينجح ويتغلب على شكوك البعض تجاه نجاحه لولا مجموعة من وزراء الصحة المتحّمسين الملتزمين الذين وقفوا مع المشروع بكامل طاقتهم، ولولا حماس الجسم الطبى العربى للدخول فى تلك التجربة المشتركة ولولا المشاعر المجتمعية العربية العامة التى كانت تشجع شعارات الوحدة العربية والعمل العربى المشترك فى كل مجال، ودون أى استثناء.
اليوم يقف هذا المجلس شامخًا ودالًا على أنه عندما تتوفر الإرادة ويتوفر العرب الرسميون وغير الرسميين الملتزمون بالمصير العربى الواحد فإن الإنجازات العربية ممكنة وكثيرة.
المثال الثانى يتمثل فى قرار وزراء التربية فى الخليج العربى بإنشاء جامعة مشتركة تتخصص فى مجالات الطب الحديثة وتمارس أحدث الوسائل التعليمية من جهة وتضيف تعليم تخصصات فى مجالات حديثة ومعاصرة من مثل علوم البحار والفضاء والجينات والتكنولوجيا التواصلية والإدارة وغيرها. كان ذلك فى بداية الثمانينيات وكان القرار أن تكون فى البحرين.
مرة أخرى وجد المشككون والمثبطون ووجدت العقبات المالية وضعف الالتزامات عند البعض، لكن مجالس أمناء جامعة الخليج العربى المتعاقبة وإداراتها النشطة ووجود ثلّة من المؤمنين بالأهمية القصوى للعمل العربى المشترك بشتى صوره وفى أى مستوى أدت إلى نجاح الجامعة وتوسعها عبر الخمسين سنة الماضية.
وكمجلس التخصصات الطبية العربى تقف جامعة الخليج العربى شامخة ومؤكدة أن العمل العربى المشترك ممكن عندما يتوافر الالتزام وتقوى الإرادات.
لقد استطاعت الغالبية الساحقة من مؤسسات المجتمعات العربية المدنية القطرية أن تنأى بنفسها عن المماحكات والصراعات الرسمية العربية وتكوين عشرات الاتحادات العربية المشتركة العاملة على مستوى الوطن العربى كله بتنسيق وتضامن.
وكما جاءت مثل تلك المبادرات من قبل وزراء تحلّوا بالشجاعة وتحّمل المسئولية باستقلال معقول ضمن عملهم فى حكومات رسمية، فإن المطلوب الآن من وزراء اليوم أن يبادروا ويقترحوا ويناضلوا من أجل ما يؤمنون به، من أجل مشاريع مشتركة، تفيد الجميع وتدفع نحو أجواء وحدوية ومن ثم إلى أهداف وحدوية.
وكما استجاب الجسم الطبى بحماس واستجاب الجسم التربوى بدون تردد فى خلق هذين المشروعين يدًا بيد مع المسئولين الحكوميين الملتزمين الشرفاء يستطيع المشهد ذاته أن يتكرر اليوم دون أن تثبطه المآسى التى حلَت بالعمل السياسى العربى القومى المشترك.
هذا أحد أنواع الردود المطلوبة فى وجه التدخلات والأحلام الاستعمارية والصهيونية التى تسعى لتفتيت هذه الأمة وإضعافها وتدمير هويتيها العروبية والإسلامية.