كعك العيد بالتقسيط - داليا شمس - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 8:53 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

كعك العيد بالتقسيط

نشر فى : السبت 9 مايو 2020 - 8:50 م | آخر تحديث : الأحد 10 مايو 2020 - 1:25 م

المصريون عندهم ود قديم تجاه التقاليد، بينهم صحبة كبيرة لا يحبون التخلي عنها. وهو ما نراه جليا أيام الكورونا، فحتى مع وجود خطورة على حياتهم هم لا يرغبون في تغيير عاداتهم. يتمسكون بها ولا يريدون التزحزح عن لمة الإفطار وأكل الفسيخ في شم النسيم وصلاة التراويح الجماعية في رمضان وإن اضطرتهم الظروف لإقامتها فوق سطح المنزل، وحاليا آن أوان التفكير في الكعك المرشوش بالسكر والغريبة المرصعة باللوز أو الفستق. وبما أن القوة الشرائية للكثيرين منهم لم تعد تسمح بالتمتع بحلويات العيد بسبب الغلاء غير المسبوق منذ العام الماضي، إذ انخفضت نسبة مبيعات الكحك والغريبة بحوالي خمسين في المئة عن السابق، فقد تقدمت بعض المحال بعروض شراء الكعك بالتقسيط على ثلاثة أشهر لمواجهة ارتفاع الأسعار، أما هذا العام فقد ظهرت قبل منتصف شهر الصوم بقليل إعلانات البنك الأهلي وغيره لشرح خدمة تقسيط شراء الكعك على ستة أشهر بدون فوائد، من خلال البطاقات الائتمانية، دون التقيد بتجار معينين، بشرط ألا تقل قيمة المنتج عن مبلغ خمسمائة جنيه. وتوالت العروض التي تضمن الجودة والأسعار، فأعلنت رئيسة جامعة قناة السويس عن إطلاق خط إنتاج جديد للكحك والبسكويت للتسهيل على المواطنين بمنطقة القناة وسيناء، في إطار تنمية موارد الجامعة بشكل غير تقليدي، مشيرة إلى أن الحلويات التي تصنعها كلية السياحة والفنادق ذاع صيتها بسبب استخدامها للسمن البلدي والتزام العاملين بإجراءات الحماية من الكورونا!

***

وقفت حائرة والأماني تدور في ذهني والروائح تختلط في الجو. أرى مسبقا أطنانا من الحلوى المعبأة مثل جبل، تشتهيها العين قبل الفم، مثلما كانت تعرض قبل قرون في دار الفطرة، بضم الفاء، وفي سوق الحلويين، أيام الفاطميين، كأننا لم نغادر كتب المقريزي. صنع المصريون الكعك منذ أيام الفراعنة وصوره منحوتة على جدران المعابد والمقابر، بل اشتق اسمه من كلمة "عجين" باللغة الهيروغليفية بحسب ما تردد، ثم ورثوه للحكام الذين أتوا في العصر الإسلامي، وتعاقبت الدول والأسر وظل الكعك ذاته يصنع في المناسبات أيام الدولة الطولونية والإخشيدية والفاطمية والأيوبية والمملوكية إلى ما غير ذلك. كان مؤشرا للحالة الاقتصادية كما هو الآن، فمثلا في عصر المماليك كانت مصر من أكثر الدول المصدرة للسكر وبالتالي رخص ثمنه واستهلكه الجميع بمناسيب كبيرة. كان يوجد في القاهرة وحدها أربعة وعشرون ألف شارع وزقاق، لكل شارع مطبخ عام ومخبزان أو أكثر، واعتمدت المدينة على أربعة وعشرين ألف طاهٍ وثمانية وأربعين ألف خباز. وفي الأيام الأخيرة من شهر رمضان كانت تنشط سوق الغذاء خاصة حوانيت الدقيق والكعك، وكان الناس يفضلون شراءه جاهزا لدى التجار اليهود الذين اشتهروا بصناعته وبيعه للمسلمين خلال عيد الفطر، ما يدل على ازدهار حركة الأسواق واندماج أصحاب الديانات المختلفة في المجتمع.

***

استخدم أيضا كعك العيد كأداة للدعاية السياسية في عصر الفاطميين، فقد أجادوا توظيف تعلق المصريين بالتقاليد واستغلوا حبهم للكعك للتواصل مع عامة الشعب واسترضائه، فأسس العزيز بالله دار الفطرة، وكانت توجد قبالة المشهد الحسيني، خارج القصر الكبير. وهى عبارة عن مخزن للمواد الغذائية الخاصة بفُطرة رمضان والعيد أو الحلوى الخاصة بختام رمضان وأول أيام عيد الفطر، من سكر وعسل ودقيق وزعفران وطيب وفستق وخلافه. يحضر الخليفة إليها في النصف الثاني من شهر رمضان ويجلس الوزير على الكرسي بين يديه ومعهما الحاشية، ويشاهدون حواصل الفُطرة من كل صنف. يأمر الخليفة بتوزيعها تحت إشرافه ليـتأكد من حصول كل مستحق على نصيبه حسب ظروفه وحاجته، سواء داخل القاهرة أو خارجها، من ربع قنطار إلى عشرة أرطال إلى رطل واحد وهو أقل نصاب.

لاتزال قوالب صنع الكعك موجودة في المتحف الإسلامي بالقاهرة، نكتشف من خلالها اسم أشهر صانعة كعك في بر مصر وهي سيدة تدعى حافظة، فكان ينقش على الكعك مثلا "تسلم إيديكي يا حافظة" أو " كل وأشكر مولاك" أو "كل هنيئا واشكر". ومن النوادر التي ذكرها المقريزي حكاية كعك الوزير أبو بكر المارداني الذي تقلد العديد من المناصب بين الدولتين الطولونية والإخشيدية وأراد أن يكسب محبة الناس فأمر بصنع نوع من الكعك محشو بقطع الذهب إلى جانب السكر والفستق والمسك، واسماه "أفطن له"، إذ كان يقال للآكلين عندما تقع بين يديهم كعكة محشوة بالذهب: "أفطن له" للتنبيه، فيخرج كل منهم من فمه الذهب ويضعه في جيبه ويستكمل التهام الكعك.

***

الحكايات والنوادر لا تنتهي، وسيأتي يوم يكون خبر تقسيط شراء الكعك على ستة أشهر من خلال البنوك ضمن ما يؤرخ للمرحلة العجيبة التي نعيشها، وسيستدل الناس على صعوبة الظروف الاقتصادية وتمسك المصريين بالعادات والتقاليد رغم كل شيء، فهي قديمة الحضور والإقامة في بلدنا. وغالبا سيتندر من سيأتوا بعدنا بسنوات عل فكرة بيع إحدى الجامعات لكعك العيد في زمن الوباء، بدلا من استنفار طاقتها في البحث العلمي. وبالطبع ستكون هناك صيغ جديدة لاستهلال الأخبار نقرأها فنقارن بين العصور المختلفة، وهنا يستحضرني بعض ما كتب أيام المماليك للتحسر على عيشة الناس في ظل الظروف الصعبة والفساد وانتشار الأوبئة: "وماذا بمصر من المؤلمات، فذو اللب لا يرتضي يسكُن. فترك وجوع وطاعون وفرط وغلاء، وهم وغم والسراج يدخن". أضحك وأردد الموال الشعبي "ياما دقت على الراس طبول".

التعليقات