صَدرت تنبيهات متعددة في الفترة الأخيرة، تحذر المواطنين من مغادرة بيوتهم وتؤكد اقتراب عواصف ترابية شديدة؛ قادرة على إثارة نوبات الحساسيّة عند المرضى، وعلى إيقاع حوادث طريق. مرت الأيام بسلام ولم يُرَ طقس خَطر إلا في بعض المحافظات، بينما نجت العاصمة من التهديد، ولم يفهم بعض الناس ما الداعي لإلزام التلامذة لبيوتهم في أنحاء الجمهورية كافة، عبر قرارات حاسمة مصدرها مؤسسات رسمية.
• • •
المَصدَر اسمُ مكان مُشتقّ من الفعل صَدَرَ، الفاعل صادر وفي مقابله الوارد، أما الفاعل فمصدور، ويُقال صَدر الفعل عن فلان، أو صَدر الأمر إلى علّان.
• • •
كنا نتحايل فيما مضى؛ ونحن بعد طلاب جامعة، كي ننشر كلماتِنا ونوزعها. نكتب العبارة الخالدة: "مجلة غير دورية" على المَطبوعة لنتجنّب شرط الحصول على إذن أو ترخيص لإصدارها، ولنتمكن لاحقا من توزيعها؛ دون التعرّض للمساءلة القانونية. مرَّت الأيام ولم تعد وسائل التحايُل العادية مناسبة بأي حال؛ فالسياق قد اختلف والقوانين ذاتها تتعرّض لإعادة الصياغة والتشكيل، واللوائح تدبج من جديد، فضلا عن استحداث وسائل نشر إلكترونية لا تخضع بالطبع للقواعدِ التي خبرناها؛ لكنها تُقابَل بالأنواع الملائمة من الرقابة والتضييق.
• • •
في جَلسة مع بعض الأصدقاء على مَقهى قريب؛ طافت بالأنوف رائحة قوية نفاذة، وصفها أغلبنا بأنها "غريبة". خليط من البُن المَحروق والسوداني والبندق ومُكونات أخرى يتعذّر تمييزها. تساءلنا عن المَصدَر فأدركنا أن ثمّة مطحنة قريبة؛ تصنع ألوانا من البُن الممزوج بمختلف الإضافات، يطغى رحيقها على ما سواه ويبعث في الجالسين نشوة وابتهاجا. القهوة مصدر سعادة حقيقية لمحبيها، ورفيق يخفف الهموم ويتقاسم مع المحتسي لحظاته الثقيلة والحاسمة على حدٍ سواء.
• • •
مثَّلت الصحافة لكثير أربابها مصدرَ متاعب لا أول لها ولا آخر؛ إذ المعلومات هي الهدف الأصيل، وطُرق الوصول إليها وتدقيقها ليست على الدوام سهلة مُيسّرة. من المصادر مجهول يرفض الإفصاح عن اسمه، وموثوق به يُؤخذ حديثه جَدًّا وتسليمًا، ومَشكوك فيه يُسمع له بغير يقين. عادة ما يكون المَصدر المُطّلع مُقربًا من دوائر صنع القرار؛ يُتيح له مَوقعه معرفة أوسع من الآخرين وأشمل، أما عدم تسميته وإسناد المَعلومة الواردة إليه؛ فغالبًا ما ينبئ عن رغبة في التهرُّب من المسئولية والتنصُّل من التبعات.
• • •
يؤشِّر مصدر المعلومة على مدى صدقها، ويُنبّه المتلقي إلى وجود احتمالات عِدّة؛ إذ ربما كانت مغرضة ذات أهداف أبعد مما يري، أو بريئة مُجرّدة من الأهواء. المَصدر حاسم في دلالاته، عاكس لكثير التفاصيل، والمتلقون الحَذقون يبحثون أولا عن أصل ومَنبع ما يستقبلون من أقاصيص وحكايات؛ أما الأشخاص الانفعاليون فيتجاوبون وينخرطون بكامل مشاعرهم، قبل أن يلتفتوا لدِقة الأمر.
• • •
يرى بعضُ كبار الاقتصاديين أن الاستدانةَ من المؤسّسات الدولية المعروفة؛ مَصدر بلاء وأساس لمشكلات متراتبة ومتوالية، وأن العمل على تنمية مصادر الدّخل بالجهود الذاتية؛ يسفر عن تحسّن ملحوظ في الأحوال ولو تطلب وقتًا أطول وجهدا أكبر. الإنصات لأصحاب الخبرة والدراية مسلك حميد، والنظر إلى تجارب الآخرين يسهّل اتخاذ القرار السّليم؛ بينما الاكتفاء بالرؤية الضيقة المحصورة في الذات؛ يفضي بطبيعته إلى المهالك.
• • •
خروج العددِ الأول من أي مطبوعة إلى النور؛ احتفاء بمصدر معرفة جديد، سواء قدم صيغا مبتكرة أو عكس حال المجتمع وكشف ما يعتمل فيه. من الإصدارات الورقية ما هو يوميّ، وما هو أسبوعيّ أو شهريّ، وهناك أيضا دوريات فَصلِيّة، ولا ينكر قارئ أن الصّحف اليومية فقدت قيمتها فيما يتعلق بالمادة الخبرية، فوسائل التواصل الاجتماعية حلّت محلها، وصارت تنقل الأحداث دقيقة تلو أخرى، أما الورق فيحمل إلى المتلقي ما أمسى قديمًا معروفًا. القيمة الحقيقية للدوريات الورقية تكمن فيما تحتوي من آراء وتحليلات؛ ولعل التأني والتقاطَ الأنفاس والسّعي إلى تقديم رؤية معمقة ومتماسكة؛ هو ما يميز المقالة عن الخبر، ولعل الاعتناء بمستوى الكتابة دافع يحرض القارئ على الاستزادة.
• • •
إذا صدر عن أحدهم سُلوك غير مألوف لا يعكس طبيعته ولا يبدو نابعا من سمات شخصيته وخصاله؛ تساءل المحيطون به عن المغزى وفتشوا عن الأسباب. التغيّر الذي ينتاب ما استقرّ من عادات وطقوس يدعو إلى الاندهاش، إذ ثمَّة ما يكمُن وراءه والحكمة الشعبية تقول: إذا عُرِف السبب؛ بَطُل العَجب.
• • •
الصَّادر والوارد مفردتان يعرفهما جيدًا من عَمل في الأروقة الحكومية. تأتي المُخاطباتُ فيتسلمها الموظفُ المُختصّ في دفتره، ويعطيها رقمًا وتاريخًا. تخرج من المكان مستندات وردود ومُذكّرات فيفعل بها المِثل؛ ورغم الخطوات التي تبدو مُملة طويلة؛ يتبين أن التعامل الورقيّ له من الإيجابيات مثل ما له من سلبيات، فمحاولات التطوير التكنولوجيّ والربط بين الحواسيب في ظل تردي أحوال الشبكة الإلكترونية؛ أمر قد تعذَّر الإتيان به، وزياراتٌ مُتتالية لبعض المَصالح تأتي بالخلاصَة الوافية: ”السيستم“ واقع.
• • •
فيما مضى؛ تمتَّعت عديدُ المصادر الخبرِيّة بثقة الناس واحترامهم. بمرور الوقت وتعقد الواقع؛ تحوَلت معظم المصادر إلى مَواطن تشكّك وارتياب، ثم باتت مادة للسّخرية والهَذر، وقد انتهج كثيرُها سبلا ملتوية، وتلوّن بمصالح شخصيّة وسلطويّة متشابكة مُفزعة، وغدت المعلومة الصّحيحة في هذه المَعمعة بمنزلة عملة شحيحة، والحقّ أن العالم بات بأكمله في حال من الميوعة غير المألوفة؛ تتقاذفه أنباء وتصريحات وبيانات لا حصر لها، ولا مصداقية لمصادرها ومعامل إنتاجها، وبينما تعاني بعض الشعوب من الحال المتدهورة وتذهل إزاءها؛ فقد اعتادتها شعوب أخرى وأمست في حِلّ من الاندهاش لها وبها.