ماذا نفعل؟ - محمد المخزنجي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 11:30 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

ماذا نفعل؟

نشر فى : الخميس 12 يناير 2012 - 8:00 ص | آخر تحديث : الخميس 12 يناير 2012 - 8:00 ص

لم أستطع أن أكتب فى الأسبوع الماضى لأننى لم أطمئن إلى طرف إجابة مقنعة لروحى قبل أن تكون مقنعة لأى أحد آخر، لكننى بعد أيام من مكابدة إلحاح السؤال توصلت إلى صيغة تطمئننى بعض الشىء مفادها: لنحسب كل أقوالنا وأفعالنا فى هذه اللحظة المصرية الحرجة والخطرة بحساب النتائج.

 

 فإذا كانت أى نتيجة لفعل أو قول مهما كانت قناعتنا ذات مردود تدميرى أو سيئ أو سلبى على مجمل الأمة، فهى خطأ ينبغى اجتنابه وإلا كنا كذابين، بل مجرمين فى حق وطننا وأهلنا وأولادنا والمستقبل، ومن ثم تتبلور الإجابة عن هذا السؤال فى إطار أخلاقى، لأن الفريضة الغائبة فيما يتراءى لى لدى كثيرين من فرقاء المشهد السياسى، هى غياب الشعور العميق بالمسئولية العامة مقابل الحضور المقيت لتضخم أو استفحال أو غطرسة أو أنانية الذوات الخاصة، سواء كانت هذه الذوات فردية نرجسية أو أيديولوجية أو مذهبية أو طائفية متعصبة، تتكالب على تحصيل القوة لا حصول الحق، وهذه حالة لا أخلاقية مهما ادعت، ومن أى فصيل أو أى طرف صدرت، وما عاقبتها إلا التدمير، ولنتلفت حولنا ونستاءل:

 

ماذا يعنى أن نرى يساريا شابا يتفيهق بكلام قديم يلقيه على حفنة من سامعيه محدودى العدد والمعزولين جماهيريا، عن هدم الدولة «البورجوازية» وشق وحدة الجيش، دون استبصار بخطورة هذا الكلام، الذى أوقن أنه محض كلام، لكنه فى هذه اللحظة كلام لا أخلاقى لأنه لا يتحسب للنتائج السلبية، ولو على المستوى النفسى لسامعيه ومشاهديه على شبكة الانترنت، حيث تم تسجيل هذا الهراء القديم ورفعه ليتابعه الجميع على الشبكة العنكبوتية الحديثة؟!

 

 

وماذا يعنى أن يتنافخ «شيخ» وهابى متعصب مهددا الأمة بأن خروجها على المنادين بالشريعة إذا فشلوا فى تحقيق آمال من انتخبوهم فى إصلاح أحوالهم المعيشية سيُعتبر رفضا للشريعة يضعهم فى خانة «خوارج» ينبغى قتالهم، أو سحقهم من قبل «شرطة إسلامية» شديدة البأس!

 

 ألا يعنى ذلك ترويعا للأمة، ونذيرا بمخططات تحول مؤسسات الأمة الأمنية المحمود حيادها إلى ميليشيات طائفية؟ ومثله هؤلاء المعلنون عن تكوين هيئة «الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر» لمطاردة الناس بالتقريع والمقارع على غرار ما يحدث فى السعودية، فكأن مصر المتدينة الوسطية المعتدلة يستجلب لها البعض قسرا تطرف هيئة صارت عبئا يتم تحجيمه فى المملكة ليترعرع فى مصر. والتحاقا بذلك نسمع تصريحا لقس شارد يعلن الاستعداد لسفك الدماء والاستشهاد إن تم فرض شىء على الأقباط بالقوة ! ماذا يعنى ذلك؟!

 

 

وماذا يعنى أن يعاند قلة من شباب الثورة بمقولة الخروج فى «ثورة ثانية» واعتصام فى ميدان التحرير لحين تحقيق مطالب الثورة الأصلية وتسليم العسكريين السلطة لحكم مدنى «فورا»، إلا أن يكون ذلك دعوة لصدام كارثى جديد مع العسكريين، ودوران البلاد فى حلقة مفرغة من الجنون والدم، فى غيبة أى التفاف جماهيرى حول توجه هذه القلة، مع كل المخاطر المُحقَّقة لهذا التسليم «الفورى» لمجهول مدنى «فورى» بالطبع! وبرغم كل الأخطاء بل الخطايا التى وقع فيها المجلس العسكرى خاصة فى الفترة الأخيرة، فلن يستطيع عاقل أن ينفى دور القوات المسلحة كمؤسسة مانعة لتفكك الدولة منذ الانهيار الأمنى وحتى الآن، بل إنهاتبعا لتاريخها وطبيعة تكوينها كبوتقة جامعة لكل طوائف وأطياف الأمة دون تمييز تمثل الحارس لمدنية الدولة لاطائفيتها الخطرة، ولمن لايعجبه هذا الكلام أدعوه ليتذكر معى تصريح الفريق عنان بأن «مدنية الدولة مسألة أمن قومى»، وهى مقولة صحيحة فى الإطار الداخلى لمصر التعددية، والإطار الخارجى لمصر التى تعيش فى قلب العالم المعاصر!

 

 

قالها رئيس الأركان فهاج عليه عش دبابير التعصب الدينى وتركه دعاة الدولة المدنية وحيدا خشية أن يُتهموا بموالاة «العسكر»! والشيء نفسه مع تصريح اللواء مختار الملا بأن الأغلبية البرلمانية لا تمثل كل المصريين، وهى حقيقة واقعية يتأسس عليها أى تشكيل عادل لواضعى الدستور. ويومها أيضا لم يجد اللواء الملا من القائلين بتوسيع لجنة إعداد الدستور من يصطف مع تصريحه الصحيح قطعا. فماذا يعنى ذلك؟

 

 

وماذا يعنى فى الوقت نفسه ذلك الهجوم الشامل على منظمات المجتمع المدنى فى ظل حكم المجلس العسكرى (برغم اشمئزازى من بواطن بعض التمويل الأجنبى لبعض هذه المنظمات) دون مساس ولا حتى مجرد المساءلة عن تمويل خارجى آخر لجمعيات وفاعليات تحت لافتات دينية، وهو تمويل لا تقل خطورة بواطنه عن بواطن التمويل الأجنبى لبعض منظمات المجتمع المدنى، بل هى خطورة أشد نكيرا لا على شكل الحكم وتشكيل الدولة فقط، بل على روح التسامح التاريخى الحافظ لمسلَّمات الأمة المصرية والضامن للُحمتها الجغرافية والسكانية المهددة باستجلاب تزمت وتعصب مجتمعات نفطية دون أن يكون لدينا ترفها النفطى الذى يفتح أبوابا ليست خافية وإن كانت سرية تعوِّض بها هذه المجتمعات ما تعانيه من عقابيل التعصب والتزمت الداخلى بانفلات جامح، وفاضح أحيانا، خارج الحدود وداخل القصور، وهى مجتمعات سماها الشيخ راشد الغنوشى القائد المسلم المستنير «مجتمعات النفاق». فماذا يريدون منا؟ وماذا نفعل؟!

 

 

إن من لا يردعه ضميره بضبط الأقوال والأفعال على حسب ما يترتب عليها من نتائج، ينبغى مساءلته بالقانون وبحصار الرأى العام، مع إعطاء فرصة للتسامح والصفح إن ثبت حسن النوايا، فثمة مؤامرة حقيقية دولية وإقليمية تتعرض لها مصر ككيان تاريخى وطموح مستقبلى، وليس سيناريو حرق مصر يوم 25 يناير هو عين المؤامرة، فالمؤامرة الحقيقية مفتوحة التاريخ ومطبوخة على مهل ولا تتمثل فى «التقسيم» الجغرافى بإكراه خارجى على نمط مؤامرة «سايكس بيكو سازانوف» التى مزقت المشرق العربى وانكشفت خباياها سنة 1916، بل تتمثل فى تمزيق جديد للمجتمعات العربية وعلى رأسها مصر بآلية «لانقسام» الطوعى داخل المجتمع الواحد عبر الفتن الطائفية والعرقية والعشائرية، كتنفيذ مطوَّر للمخطط الذى وضعه الصهيونى الشيطانى البريطانى المتآمر كبرنادر لويس المولود سنة 1916 نفسها!

 

 

 قد يكون هذا أمرا آجلا، مما يفسح لبعض من يظنون أنهم ينتصرون لطوائفهم أو مذاهبهم بالتعصب أن يراجعوا أنفسهم حتى لا يتورطوا بحسن نية ودون انتباه فى تنفيذ مخطط هذا الشيطان البشرى الصهيونى، ورُعاته من المحافظين الجدد فى الولايات المتحدة ومن يمضى على دربهم فى منطقتنا العربية، فالنوايا الحسنة أحيانا تكون طريقا إلى الجحيم، وهذا ما أربأ بشباب طيب ومخلص من بعض الإسلاميين أن يقعوا فيه جريا على تحريضات بعض الشائخين قصيرى النظر السياسى، والروحى.

 

 

أما عن العاجل فهو: ما الذى يمكن أن نفعله الآن، وتحديدا فى ذكرى ثورة يناير التى تحل بعد أقل من أسبوعين؟! وإننى لا أفهم أخلاقية منطق «الاحتفال» بعد كل هذه الدماء التى سالت والأرواح التى أُزهقت والأكاذيب والتخبطات والعطالة والفُرقة على مدى سنة كاملة، لكننى أفهم أن يكون 25 يناير يوما أخلاقيا تتذاكر فيه الأمة فضل شهدائها وجرحاها الذين منحوها هدية التاريخ الأفضل بالتحرر من ربقة عصابة دنيئة كانت تخرب مصر لصالح أطماعها البليدة. نتذاكر معاناتهم ومعاناة ذويهم خاصة الفقراء منهم، ونتوافق على أن حقوقهم على الأمة واجب أخلاقى على سلم أولوية الأولويات فى كل حين.

 

 

وبحساب الأخلاق أيضا أتصور أن يكون هذا اليوم مناسبة للدفاع عن توافق الأمة حول قرار عدم العودة إلى الخلف، والإقرار بشرعية برلمان تم انتخابه بغض النظر عن كل ما شاب هذه الانتخابات من نقائص، أما الطقس الاحتفالى الأهم فهو الدفاع عن وسطية الأمة المصرية واعتدالها الدينى والدنيوى، لا بأى شكل من أشكال الاعتصام ولا الهتافات التى يسهل شططها، بل بمسيرات حضارية صامتة ترفع لافتات كل معانى الوسطية المصرية الحميدة والاعتدال النبيل لجماعتنا الوطنية، ويسير فيها عموم الناس وعلى رأسهم رجال الأزهر الشريف والفنانون والكُتاب وتحرسها قوات رمزية من الجيش والشرطة تتشابك أيدى رجالها مع أيادى شباب الثورة من كل الأطياف. وما المانع أن نفرح قليلا بصدح موسيقات الجيش والشرطة، فالفرح النقى من كل ابتذال هو احتياج إنسانى فطرى، بل هو تحفيز للتسامح الدينى والدنيوى، وتأهيل عاطفى لنهضة مأمولة تأخرنا كثيرا فى اللحاق بها. فهل أحلم؟!

 

 

ليكن أننى أحلم، فلولا أحلام النوم لعطبت العقول ولولا أحلام اليقظة لتقزَّم الإبداع الإنسانى كله، ثم إننى سئمت مستنقع الجدل والتراشق السياسى الذى قد أكون انزلقت إلى شيء من حوافه، والذى أرى أن ردمه ضرورة حياة ونهوض وعافية وطنية، ولن يتأتى إلا بالعمل فى مشروع نهضوى مصرى مادى ومعنوى وروحى شامل وكبير وجامع، هذا هو المقياس الذى يحقق التيقن من الإيمان الذى وإن وقر فى القلب فلابد أن يصدقه العمل، الفعل البادى للعيان والكاسح لكل ترهات التنابذ واللؤم والتعصب والانغلاق والغفلة. ولعلى أكون قد اخترت طريقى فى هذا السبيل، بأن أستقيل من مقارفة قرف السياسة التى لم يخلقنى الله لها، وأكرس ما تبقى من طاقتى والعمر للثقافة العلمية وللأدب. فالثورة الثانية المأمولة طويلة المدى، ومطلبها ليس مجرد التغيير السياسى، بل تغيير ما ران على العقول والأرواح والأذواق من بؤس أنظمة الاستبداد والفساد والقهر التى لابد أننا قد أصابنا منها القليل أو الكثير، والواقع شاهد. وكل على نفسه شهيد.

محمد المخزنجي كاتب مصري كبير ، وطبيب أمراض نفسية ، ولد في المنصورة ، وعمل في مجلة العربي الكويتية ثم تفرغ ككاتب حر ، يُعتبر من أبرز كتاب القصة في العالم العربي ، وله إسهامات متفردة في الكتابة العلمية وأدب الرحلات والمقال الصحفي .