ثمة تشوق كامن فى مصر بحثا عن معنى جديد يلهم شبابها الأمل فى المستقبل والقدرة عليه.
الظاهرة لا تخطئها عين تنظر تحت سطح المجتمع بتفاعلاته وحوادثه وأحلامه وإحباطاته.
وقد تجلت فى الولع الجماعى بـ«محمد صلاح» لاعب المنتخب الوطنى وجناح فريق «ليفربول» الإنجليزى، الذى أصبح ظاهرة اجتماعية بقدر ما هو ظاهرة رياضية، كما فى لوعة فراق الأديب «أحمد خالد توفيق» من قطاعات شابة واسعة حتى أصبح وداعه فى جنازته وعلى شبكة التواصل الاجتماعى ظاهرة سياسية بقدر ما هو ظاهرة ثقافية.
قد يعزى الولع بـ«صلاح» إلى تمكنه من التقدم باستمرار لمستويات تكاد تدفع به إلى مرتبة لم تكن متصورة فى أى خيال بعوالم كرة القدم ـ اللعبة الأكثر شعبية فى العالم بأسره.
هذا طبيعى ومفهوم فى أى بلد، فهو احتفاء مستحق بالموهبة والجدية والإصرار على النجاح، لكنه لا يتوقف عند خطوط الرياضة.
مدى الاهتمام بمنافساته وتقصى أخباره تجاوز الطبيعى والمفهوم إلى حالة تبنى عام، كأنه ابن لكل أسرة أمره يعنيها واضطراد تفوقه يخصها، حتى الذين لم يسبق لهم مشاهدة مباراة كرة قدم واحدة.
لماذا «صلاح» بالذات؟
السؤال فى علم الاجتماع، كما علم النفس، داخلا فى السياسة ورسائلها إلى المستقبل.
الولع بـ«صلاح» يحدث تحت الضوء الباهر.
وهو ما يصعب أن يعزى إلى لوعة فراق «أحمد خالد توفيق».
كان ذلك مباغتا للنخب السياسية والثقافية، التى دأبت على النظر إلى أعماله بشىء من الاستخفاف، أو تجاهل قراءتها دون أن تخضع أعماله للنقد، أو تلحظ فى أى وقت مدى تأثيره على الأجيال الناشئة فى سن المراهقة، حتى أنها أطلقت عليه «العراب».
وفق المستقر من معايير نقدية لا ينظر باهتمام إلى كتب «الجيب»، التى تخاطب صغار السن، أو المراهقين، بقصص تتداخل فيها عوالم الرعب والفانتازيا وما بعد الطبيعة.
بعد رحيله واكتشاف مدى شعبيته فى أوساط الشباب جرت اعتذارات بلا حد من شخصيات عامة لم يسبق أن قرأت له حرفا واحدا.
الاثنان من خارج السياق الرسمى.
الأول ـ اكتشف حجم موهبته فى الملاعب الأوروبية، ولو قدر له أن يظل لاعبا فى مصر لما تمكن من يصل إلى هذا المستوى المدهش.
عندما عمل من ضمن قواعد حديثة ومنضبطة قدر له أن يصل إلى ما وصل إليه.
والثانى ـ نظر إليه بتجاهل كبير حتى اكتشف المجتمع كله مدى تأثيره على أجيال الشباب، فهو الذى علمهم ـ بلا ادعاء أستاذية ـ عادة القراءة وعرف كيف يخاطب احتياجاتهم فى الاطلاع على العصر بسلاسل جيب وقصص مبسطة ومثل قدوة دعتهم لرثائه، كما لم يحدث مع أديب آخر مهما علت مكانته.
لقد نجح أستاذ فى كلية طب جامعة طنطا، لم يغادر مدينته ولا أقام فى العاصمة بأى وقت، فيما لم تنجح فيه المؤسسة الثقافية الرسمية فى نشر عادة القراءة دون أن يحصد فى حياته أى اعتراف بفضله حتى داهمتنا الحقيقة إننا لا نكاد نعرف شيئا عما يحدث تحت سطح المجتمع.
كلاهما اكتسب تأثيره على الوجدان العام من «القوة الأخلاقية» وقدر التواضع الذى يتمتع به قبل أى شىء آخر.
بقدر تواضع «صلاح» وارتباطه بأهل قريته والتبرع فى أعمال خير دخل قلوب عامة المصريين.
وبقدر نجاحه فى ظروف شبه مستحيلة عندما كان مضطرا فى بداياته أن يسافر للعاصمة للتدريب واللعب ويعود فى نفس اليوم لقريته البعيدة أصبح قدوة لمن يطلب نجاحا، أو تجاوز إخفاقا وتعثرا فى حياته.
كان مثيرا أن ينجح إعلان تليفزيونى لمكافحة الإدمان فى اجتذاب عشرات آلاف المدمنين لطلب التعافى تأثرا بدعوته.
حسب الأرقام الرسمية فإن نسبة تعاطى المخدرات فى مصر ضعف المعدلات الدولية ـ وهذه كارثة منذرة تعكس خللا اجتماعيا فادحا فى بنية أى تطلع للمستقبل.
بقوة النموذج وصدقيته نجح لاعب كرة قدم فيما تعثرت فيه وزارات الشباب والثقافة والداخلية والأوقاف ومؤسسات أخرى فى الدولة.
بذات القدر دخل «أحمد خالد توفيق» قلوب قرائه من الشباب اليافع وسحره فى بساطة كتاباته بصلب اهتماماتهم، رغم أن هذا النوع من الأدب لا يحظى بالاعتراف النقدى فى مصر.
لماذا حظى «أحمد خالد توفيق» بمثل هذه الشعبية، التى لم يكن أحد على دراية بها حتى داهمتنا حقائق وداعه؟
قد يكون ـ بطريقة ما ـ عرابا غير معلن لثورة «يناير» بالنظر إلى أن قراءه هم أنفسهم الذين تصدروا مشاهدها.
لم يكن سياسيا بالمعنى المتعارف عليه، رغم ميله بنصوص منشورة إلى مشروع «جمال عبدالناصر»، لا انضم إلى حزب ولا شارك فى حركات احتجاجية، لكنه لعب دورا جوهريا ومجهولا فى تشكيل وعى الجيل، الذى تصدر مشاهد «يناير».
ذلك الجيل اكتسب تجربته السياسية الأولى، كأنها بروفة مبكرة للثورة، فى تظاهرات تلاميذ المدارس الابتدائية والإعدادية عند اغتيال الطفل الفلسطينى «محمد الدرة» مطلع القرن.
لاحظت أستاذة الأدب الإنجليزى والأديبة الراحلة الدكتورة «رضوى عاشور» أن هؤلاء التلاميذ الصغار ـ بإضافة عشر سنوات ـ هم أنفسهم جيل «يناير».
ما يجب أن نلاحظه ـ الآن ـ أنهم من قراء «أحمد خالد توفيق».
ربما يكون «صلاح» ابن ذلك الجيل أحد هؤلاء القراء.
المثير أن الاثنين من منطقة جغرافية واحدة بمحافظة الغربية فى دلتا مصر.
ما لا نريد أن نلتفت إليه أننا أمام أجيال مختلفة بمفرداتها وخيالها وروحها العامة واتساع اتصالها ـ عبر الوسائط الحديثة ـ بالعالم.
هذا ما لا يمكن كبته، أو مصادرته، كما يكاد يستحيل العودة إلى أية أساليب قديمة فى الحكم مهما كانت الذرائع والأسباب إلا بأثمان باهظة.
إنه العصر عندما تتحدث حقائقه باحتياجات جديدة وأجيال جديدة تبحث عن معنى بعد أن تكسرت أحلامها بإجهاض تطلعات ثورتى «يناير» و«يونيو» فى بناء دولة مدنية حديثة، دولة قانون ومؤسسات، دولة توفر بيئة احتضان لمواهبها فى الأدب والثقافة والإبداع والبحث العلمى.. والرياضة.
مصر دولة شابة بـ(٦٠٪) من سكانها والصدام مع الشباب هو صدام مع المستقبل نتائجه معروفة سلفا.
أسوأ ما حدث بعد «يناير» وفورته الأولى أن أطرافا عديدة سعت إلى كسر الأجيال الجديدة.
فى البداية جرت عملية تقديس بمبالغات مفرطة قبل أن تنقض عليهم اتهامات الشيطنة بقسوة بالغة.
لا أمل فى استقرار ممكن، أو تقدم إلى الأمام، إلا بمصالحات حقيقية مع الأجيال الجديدة حوارا بلا وصاية وإفساح المجال لكل إبداع بلا مصادرة.
الشباب ـ بالذات ـ موضوع البحث المضنى عن معنى أنهم يستطيعون صياغة حياتهم بما يتوافق مع عصرهم، الذى يعيشون فيه.
هذا ما تستحقه مصر التى تبحث بالكاد عن أمل.