اسم مستعار - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الأربعاء 24 أبريل 2024 5:03 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

اسم مستعار

نشر فى : الخميس 11 مايو 2017 - 9:55 م | آخر تحديث : الخميس 11 مايو 2017 - 9:55 م

عاش حياته كلها معتدا باسم عائلته كأقصى ما يكون الاعتداد، وفى كل مرة أنشأ علاقة جديدة كان يحرص على أن يستعرض الأصول العريقة لعائلته التى يتوزع البكوات والباشاوات على أجيالها المختلفة، يُدخل فى جمل مفيدة عبارات لم يعد يفهمها كثيرون عن الخولى وناظر الزراعة فى دائرة جده فلان أو عمه علان ثم يبدأ يدير الحوار، يريد أن يقول لذلك الجالس أمامه انتبه فنحن لسنا ندّين. لم يكن هذا السلوك يروق لكثيرين ممن لا يعرفونه، وكان بعضهم يلفت نظره بلطف حتى يدخل مباشرة فى الموضوع، لكنه أبدا لم يقتنع، كان يعتبر أن هذا التعريف هو الكارت الشفهى الذى يقدمه للطرف الآخر جنبا إلى جنب مع الكارت المطبوع الذى يستخرجه من العلبة الأنيقة المصنوعة من الفضة الخالصة وعليها الحرف الأول من اسمه M. وأخيرا انتهى الآخرون سواء من يعرفونه من سنين أو من يصادفونه لأول مرة إلى أن يأخذوه على علّاته فقد كان دائما لديه ما يقول، واسع الثقافة، حلو الحديث، يتمتع بذاكرة حديدية مملوءة بالحكايات والتفاصيل المثيرة. بدرجة معينة يمكن أن نعتبر ذاكرته هى نفسها ذاكرة الوطن على مدار ما يزيد على ثلاثة أرباع القرن، ولقد كانت لديه القدرة على تجسيد الأشياء والأشخاص إلى حد تحس معه أنك تصافح البشر وتعيش الأحداث بنفسك.
عندما تعاقد معه رئيس تحرير إحدى الصحف الكبرى على أن يكتب عمودا أسبوعيا بعنوان «ذكريات» غمرته سعادة لا يمكن وصفها، فالعمود الأسبوعى كان نافذة يفتحها لقارئه على ماضيه المُشرف وهو يحكى بطلاقة عن تاريخ الوطن. لكن ما يسعده أكثر كان تجاوبه مع تعليقات قرائه التى كانت عادة ما تسأله عن التفاصيل والخلفيات، فهنا يأخذ راحته ليتكلم بما ضاقت عنه المساحة المسموح له بالكتابة فيها، والحق أنه فى بداية تعاقده مع الصحيفة حاول أن يتمرد على المساحة الضيقة وعدد الكلمات المحدود من مدخل أن لديه صولات وجولات فى حياته فيها عِبر ومواعظ تستحق الرواية لكنه فشل، ثم حقق بغيته فى التفاعل مع القرّاء إلى أن كان يوم.
***
كان يطالع جرائد الصباح كعادته فى شرفة منزله المطل على نيل الزمالك، الروب دو شامبر الصوف مع فنجان الإسبرسو كانا يكفيان بالكاد لإشاعة بعض الدفء فى أوصاله فى شهر مارس المتقلب بطبيعته. استرعى انتباهه خبر فى صفحة الحوادث عن فلان الفلانى الذى أوقفه بوليس مدينة لندن على خلفية شجار مع جاره سرعان ما تطور إلى استخدام السلاح وإصابة الجار برصاصة فى الصدر. اهتز فنجان الإسبرسو فى يد صاحبنا وكاد يُسقط ما تبقى منه على روبه الوثير فوضع الفنجان على المائدة. راحت ضربات قلبه تتقافز من سطر لآخر لا يكاد يدرى أهى التى تسبق عينيه أم العكس فلم يكن بطل الواقعة إلا شقيقه الذى قرر الهجرة للخارج منذ منتصف السبعينيات. طوال حياته كان هذا الأخ مصدرا للمتاعب ومثارا للمشكلات، تقلب بين مهن شتى وزيجات متنوعة الجنسيات وبلدان عديدة حتى استقر به المقام فى بريطانيا. انقطعت صلته بصاحبنا تماما من سنين طويلة ليفاجأ به هذا الصباح خبرا فى الجريدة، لا وليس أى جريدة إنها تلك التى يكتب فيها عموده الأسبوعى «ذكريات». كيف تجرؤ الجريدة أن تُشٓهر به على هذا النحو فتنشر عن أخيه تلك «الفضيحة»؟ لماذا لم تشاوره بداية وقبل نشر الخبر ربما أمكن عمل شيء ما (وإن كان لا يعلم ما هو هذا الشيء تحديدا)؟ لكن ترى هل تبين مراسل الجريدة فى لندن هذه العلاقة الأسرية بين صاحب العمود وبين بطل الواقعة أم أن صاحبنا يفترض ذلك ويتصرف تصرف من على رأسه بطحة لا يكف عن تحسسها؟ بعد أن زال أثر الصدمة هاج وماج، بحث عن رقم قديم يحتفظ به لأخيه المهاجر يستوضح منه الأمر فلم يتمكن.. تبين أن الكود الذى يسبق الرقم هو ذلك الخاص باليونان، جرب الاتصال ببعض أقاربه يتصور أنهم على صلة بأخيه فلم يفيدوه ولو حتى بمعلومة واحدة، أعاد قراءة الخبر فخلص إلى أركانه الثلاثة بلا لَبْس: أخوه ــ رصاصة ــ قتيل. أحس ببرودة مفاجئة تسرى فى جسده سرعان ما تحولت إلى رعشة فآثر أن يستلقى على فراشه، وفى الشرفة كان الهواء قد بعثر صفحات الجريدة وألقى بإحداها فى عرض الطريق.
***
بعد تفكير عميق اهتدى لحل موجع بشدة ومؤلم جدا لكن لم يكن له بديل من وجهة نظره. قرر أخذا بالأحوط أن ينهى تعاقده مع الجريدة وأن يبحث عن الكتابة فى جريدة أخرى والأهم باسم جديد. عندما رن فى عقله مصطلح «اسم جديد» التاع بالمعنى الحرفى للكلمة، لم يصدق أنه وهو الذى قضى عمره كله يعتز باسم عائلته بشدة يضطر الآن إلى البحث عن عائلة أخرى وهوية مختلفة ينتسب إليها. لقد عاش فى كنف هذا الاسم حتى بعد أن تساقط كل حٓمٓلٓته من الأهل والأقارب كما تتساقط أوراق الشجر، وكان ابن عمه المستشار فلان هو آخر ورقة تجف وتسقط قبل شهور قليلة. حياته فى هذه المساحة.. ذكرياته مرتبطة بها.. وحين يخرج منها لا يعود نفسه إنما يكون شخصا آخر يحمل اسما آخر.
لعق دمعة ساخنة فشل إطار نظارته البنية فى احتجازها وهو يتساءل فى مرارة: وإذا قبلت الجريدة الجديدة تخصيص عمود أسبوعى لشخص نكرة لا يعرفه أحد من القرّاء، و إذا ارتضى هو على مضض أن يكتب باسم مستعار على آخر الزمن فعن ماذا يكتب بالضبط ؟ لقد كان عنوان عموده الأسبوعى «ذكريات» فأى ذكريات يروى وهو ما كتب إلا عن هذه القصور وتلك النخبة وهؤلاء الخدم والحشم أم تراه يغير عنوان العمود أيضا ليكتب بذلك الاسم المستعار عن تاريخ هو الآخر مستعار؟ انسدلت ستارة من الدموع على وجهه فما عادت به حاجة إلى نظارة ولا يحزنون، كان مضطجعا على فراشه فانزلق فيه بهدوء وأرخى الغطاء على جسده البارد، قال: فى الغد أكون قد قلبت الأمر على كل وجوهه ويكون قد حلها الحلال، الغد؟ بدا هذا اللفظ شاذا كأنه لم يأتِ أبدا.

نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات