المقاهى التى تصبح بيوتنا - مواقع عربية - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 1:35 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المقاهى التى تصبح بيوتنا

نشر فى : الأحد 11 أغسطس 2019 - 11:30 م | آخر تحديث : الأحد 11 أغسطس 2019 - 11:30 م

نشر موقع درج مقالا للكاتبة «باسكال صوما»، جاء فيه ما يلى:

نحن الذين نستعير مدن الآخرين لنعيش فيها، وبيوت الناس لنستأجرها موقتا، نحن الذين هجّرتنا الحرب، ثمّ هجّرتنا أريافنا من هوائها وصرنا نازحين فى بيروت، التى نحاول كل يوم أن نجعلها مدينتنا، بعدما فقدنا طريق العودة النهائية إلى ديارنا الهانئة البعيدة. نحن الذين ندور فى الشوارع بحثا عن هواء ننتمى إليه، ثمّ نعود مساءً مختنقين، عاجزين عن التنفّس.

نحن الذين نجلس كثيرا فى المقاهى، ونأكل كثيرا ونشرب كثيرا فى المقاهى، نحوّل كراسينا فيها مع الوقت إلى بيوت وأمكنة شديدة الخصوصية.

فى المقهى الذى أجلس فيه كل يوم، يعرف النادل وجهى تماما، كيف يبتسم ولماذا يعبس، وحين يصبح شكله ميئوسا منه لشدة التعب والمحاولة. طاولتى دوما أجدها فارغة، كأنها تترقّب وصولى. أظنها أكثر من يدافع عنى فى هذه البقعة. تحجز نفسها يوميا لى وتعرف أننى سآتى. أين سأذهب إن لم آتِ؟ تعرف أن سيدةً بقامة قصيرة ستصل مستعجلة، على كتفها اليمنى «لاب توب» وفى اليد اليسرى تحمل حقيبة صغيرة، وأحيانا كيس دواء، لأننى من الذين يمرضون دوريا.

يسألنى النادل كل يوم: «متل العادة؟». ويعرف أننى أجيبه ببلى. يحضر عصيرى المفضّل وربما نرجيلة أدخّنها لسبب أجهله أحيانا، فيما أدركه تماما فى أحايين أخرى. يبتسم دوما حين أصل. المهجّرون مثلنا، يبحثون عمّن يبتسم لهم. الموقتون مثلنا يبحثون عمّن يبتسم لهم كل يوم.

أصدقائى يعرفون أنهم سيجدوننى هنا، ويسألون فى كل مرة: «ألم تملّى بعد؟». إنه بيتى، كيف يملّ الواحد من بيته؟

حين سافرت هذا الصيف، أكثر ما اشتقت إليه كان مقهاى أو كما أسمّيه «القهوة تبعى».

كل يوم أسمع الأغانى ذاتها هنا، «بكرا لما بيرجعوا الخيالة» و«رجعت تسأل عنى»، و«احكيلى عن بلدى».. حفظت الأسطوانة أغنية أغنية، وبالترتيب الصحيح، ولم أملّ. وغالبا ما أنهيها بـ«روح اسألن عاللى وليفو مش معو..».

تقول الحكاية، إن سارتر وجماعته من الوجوديين كانوا يجلسون فى مقهى «دى فلور» فى حى سان جرمان، فى حين بقى صمويل بيكيت يذهب إلى مقهى «كوبول» فى مونبرناس، وكان يجلس فى ركن معين، حتى آخر حياته. ويعرف مقهى «ديماغو» فى حى سان جرمان أكبر الشعراء الفرنسيين: فيرلين، رامبو، مالرميه، فيما كان أندريه بروتون والسورياليون يتخذونه «موقعا» لهم، ويقال إنهم أسسوا فى ما بعد جائزة أدبية طليعية باسمه.

قصة الناس مع المقاهى قديمة، وأظننى الآن أكتب قصتى.

حين يأتينى حبٌّ ما، وغالبا ما يصلنى الحب متأخرا فى أكتوبر، أكره أن يدخل مدار قهوتى. أخشى أن أضطر إلى هجرانها حين يهجرنى. أريد أن يبقى مقهاى بلا ذكريات تثير الشجن.

قبل الآن، كان لى مقهى آخر ويوم صار موعدا لحب كتب له أن يندثر، لم أعد أزوره، وصرت كمن أضاع درب بيته، أبحث عن مكان آخر لأرتمى، أنا وهذا «اللابتوب» الثقيل وهذه الحقيبة وكيس الدواء اللعين. ليست المسألة بهذه البساطة. إنها قضية حقا! أن تجد مكانا ليصير بيتك، وأنت تحمل فى قلبك جرحا ما بندوب كثيرة.

نحن الهاربين من أماكننا الأولى، نتحوّل إلى كائنات هشة، شديدة الحساسية وقد تتعلّق بأى شيء… حتى بابتسامة نادل.

كُتب هذا المقال فى مقهاى كالكثير من المقالات الأخرى… سألنى أحدهم الآن: «ألا تتعبين من الكتابة.. ألا تتعب هذه الأصابع الرفيعة؟». قلت له: ”إذا تعِبَت… قد أشترى غيرها!».

النص الأصلي

التعليقات