سقطت ورقة من الأوراق القليلة المتبقية على جذع شجرة رفاق الشباب والكفاح.. وفجع الوطن العربى بنبأ وفاة شيخ التربويين «حامد عمار».. النموذج الصادق لمن أدبه ربه فلم يبخل بأن يقدم مما وهبه إياه من علم عطاء لم ينقطع طالما ظل فى جسده عرق ينبض. اعتز بأصوله التى تحكى قصة شعب ابتدع الحضارة منذ القدم، وحافظ عليها وأثراها فى تواضع جم وبعزيمة لا تلين، وتنطق سيرته الذاتية التى سجلها فى كتابه الرائع «خطى اجتزناها» أن العزة تكون «لمن قال ها أنا ذا.. لا لمن قال كان أبى». سمعت عنه الكثير إلى أن التقيت به فى اجتماع عقده فى نوفمبر 1968 جان بيير مارتان فتى الأمم المتحدة المدلل الذى اختارته مديرا لمكتبها لمنطقة غرب آسيا فى بيروت (اليونيسوب) ليظهر غطرسته عليّ عندما كلفتنى الأمم المتحدة بإدارة مشروع لمساعدة العراق فى التخطيط. وعقب الاجتماع دعانى لتناول إفطار رمضانى، وفى السيارة أثنى على صلابة موقفى فى وجه من يعتبرون الخبراء من العالم الثالث.. درجة ثالثة. وأضافت زوجته الفاضلة إلى كلامه الطيب إفطارا شهيا، وأمضينا وقتا نتسامر فيه حول أوضاع وطن ترنح بعد نكسة 1967 وتعاهدنا على أن تنصب جهودنا على النهوض بالإنسان العربى لنقيل الأمة من عثرتها وننتشل الوطن من كبوته.

•••

وعندما اهتم الفكر التنموى البشرى بما يسمى تنمية الموارد البشرية، انطلاقا من النظرة إلى الاقتصاد كصرح يتوقف شموخه على ما يملكه من موارد، فى مقدمتها البشر، رفع راية العصيان معلنا رفعة شأن الإنسان فأعادنا إلى طريق الصواب الذى استقر الرأى العالمى عليه فيما بعد وهو التنمية البشرية. فلم نعد نتوقف عن ترديد عبارة «التنمية بالإنسان من أجل الإنسان»، بمعنى أنها تتوقف على ما يبذله من نشاط، ليستفيد مما توفره من مقومات المعيشة، بل بدأنا نلجها من بابها الصحيح باعترافنا بأنها فى جوهرها «تنمية الإنسان» ذاته.. به وله. وهى تنمية تبدأ منذ نعومة الأظافر وتستمر من المهد إلى اللحد. ولم يتردد حينما قصده حسين كامل بهاء الدين وزير التعليم العالى خلال التسعينيات (صاحب الكتاب الشهير: مبارك والتعليم) هو وعلماء أفاضل (منهم إسماعيل صبرى عبدالله) فأعطى خبرته ونصحه وآراءه، مقدما مصلحة الوطن على التصلب محافظة على موقفه من النظام القائم.

•••

ولكنه ظل حريصا على نظافة سمعته. عندما سألته عن سبب استقالته من مجلس أمناء مركز ابن خلدون، الذى ادعى سعدالدين إبراهيم أنه أنشأه كمنبر للدعوة للديمقراطية، قال «لقد اعترضت على بعض مصادر التمويل للمركز، فكان رد سعد الدين: «أنا أقبل المال من أى مصدر.. ولو من الشيطان». وكان آخر لقاء لى معه فى يوبيل معهد التخطيط القومى، وآلمنى أن سمعه تلاشى ولكن ظل ذهنه يتلألأ ولسانه ينطلق بالجديد المفيد. وكان آخر مهاتفة معه تهنئتى له بعيد ميلاده العام الماضى فعبر عن أشواق ظلت متبادلة بيننا. أرجو ألا يطول بى الوقت لأتحمل عبئها منفردا.

أجزل الله لك العطاء يا حامد مما وعد به الذين آمنوا وعملوا الصالحات.. ولعله يعوض مصر فيه خيرا بأن يستوعب المسئولون عن التعليم والشباب نصائحه وآراءه.. ليستحق شبابنا وطنا يعتز بهم ويفخرون به.