بينما تنشغل أذهان عموم الناس فى عالم اليوم بانحرافات النظام الدولى، وبحيودات عالمية متنوعة، تظهر تناولات فكرية جديدة وأصيلة على أنغام «الوجدان الدولى الجديد»، الذى أشير إليه تباعًا فى أوقات سابقة (بدءًا من يوليو 2025 فى جريدة الشروق ثم فى الحوار المتمدن).
فى هذا الإطار، صدر إصدار جديد (2024) لأكاديمى سويدى شاب، أندرياس مالم Andreas Malm، يحمل عنوانًا كالمطرقة، وكأنه إنذار: «التحطيم الجارى فى فلسطين هو تحطيم للكرة الأرضية».
إلى جانب إشارة هذا الطرح إلى توازى أوضاع تحطيم غزة مع ما يجرى من تحطيم للكرة الأرضية، فإنه يكشف عن معلومات وحقائق لم تُطرح من قبل ضمن التضاريس المعرفية السائدة. إنها مسألة تختص بأصول القضية الفلسطينية، وبالسبب الأصلى لمركزيتها عربيًا.
فى هذا الشأن، يجدر جذب الانتباه إلى بعض الخلفيات.
منهجية المؤلف والكتاب
ينشغل المؤلف بالربط بين البيئة والسياسات المهيمنة على العالم. من منصة هذا الربط ننتبه لعلاقة ما يحدث فى غزة (وفلسطين بوجه عام) بما يحدث فى البيئة على مستوى العالم.
لقد توصل «مالم» إلى ما يمكن أن نستمد منه معالم أكثر وضوحًا بشأن العلاقات بين:
• التقدم التكنولوجى كوسيلة غربية لهدم الإنسانية.
• دور الغرب فى خلق إسرائيل.
• مركزية القضية الفلسطينية، عربيًا وعالميًا.
الجديد بشأن الأصول
نظن أن الملاحظتين اللتين قادتا المؤلف إلى قراءات جديدة تتعلق بالأصول تتمثلان فى:
أ) اكتشاف الإنجليز لطاقة البخار كوسيلة لكسب المعارك البحرية.
ب) أثر هذه الوسيلة فى إنفاذ الإنجليز لرغبتهم فى إيقاف التقدم الصناعى «المصرى».
باستخدام الفحم فى تسيير المراكب الحربية، تمكنت البحرية البريطانية مع نهاية العقد الثالث من القرن التاسع عشر من الوصول، ولأول مرة فى التاريخ، إلى عدم الاعتماد على الرياح فى المعارك البحرية. إذ بينما كان الخصم ينتظر أن تكون الرياح فى صالحه، تتقدم مدفعية مراكبها (المسيَّرة بالبخار) صوب أهدافها بصرف النظر عن اتجاه الرياح.
تزامن إنجاز هذا التفوق التكنولوجى مع حاجة بريطانيا لفتح الأسواق العربية لمنتجاتها. فى هذا الخصوص، رضخت الإمبراطورية العثمانية لتوقيع معاهدة بالطا Palta-Liman Treaty للتجارة الحرة مع بريطانيا (1838)، بينما أصر محمد على على رفضها، لرغبته فى زيادة الصادرات المصرية وليس تحجيمها، حيث كان الاقتصاد المصرى هو الأكبر خارج أوروبا وأمريكا.
وفى المقابل، بتوصل بريطانيا إلى سلاحها البحرى الجديد، تبددت حيرتها بشأن كيفية مواجهة محمد على.
كبداية، وجهت بريطانيا هجماتها البحرية إلى عكا، التى كانت عمليًا تحت هيمنة مصرية. وبرغم ما كان لعكا من صمود أمام قوات نابليون (1799)، إلا أن قذائف البحرية البريطانية نجحت فى تفتيتها خلال ثلاث ساعات (1840).
كان تدمير عكا مقدمة لتدمير شواطئ فى لبنان وسوريا، وللانتقال إلى الإسكندرية لإجبار محمد على على توقيع الاتفاقية، الأمر الذى حدث بالفعل.
بعدها بدأت بريطانيا، بقيادة وزير خارجيتها «بالمرستون»، تخطط لشأن آخر، وهو إنشاء دولة يهودية على أرض فلسطين لتكون أداة مساعدة للتجارة البريطانية، وأيضًا لتكون بمثابة «شاكوش» لعرقلة استنهاض المنطقة العربية، سواء بواسطة محمد على أو آخرين.
هكذا تشكلت البداية، التى استهدفت الاستيلاء على فلسطين من أجل تهديد مصر، وقمع أى تقدم للمنطقة العربية.
حركيات الالتفاف والاستهداف والاستحواذ
هنا يمكن الإشارة إلى الأحداث التالية:
• فى 25 نوفمبر 1840، أى قبل وعد بلفور بأكثر من سبعة عقود، صدر أول اقتراح بنقل اليهود إلى فلسطين. جاء ذلك فى برقية من «بالمرستون»، وزير خارجية بريطانيا، إلى «بونسونبى»، السفير البريطانى فى إسطنبول، طالبًا منه أن يجعل السلطان العثمانى يعطى كل ما يمكن من التشجيع والإمكانات لليهود لتيسير شرائهم للأراضى فى فلسطين. كما أوصى الخطاب بتمتعهم بالحماية البريطانية.
• لم يكن لدى يهود أوروبا رغبة قوية للذهاب إلى فلسطين، الأمر الذى أثار «تشارلز تشرشل»، وكان وقتها قنصلًا لبريطانيا فى دمشق، كما يظهر فى رسالته إلى «موشيه مونتيفيورى»، رئيس مجلس النواب اليهود البريطانيين، والتى يقول فيها: «إنكم سوف تحصلون على السيادة على فلسطين، على الأقل».
• وترويجًا للتوجه البريطانى، بدأت دعاية الإنجليز بالقول: «أرض بلا شعب تُعطى لشعب بلا أرض».
• وهكذا، كانت نشأة الحركة الصهيونية عام 1896 (ومعها وعد بلفور عام 1917) أشبه باستقدام عربة لتوضع على قضبان كانت قد صُنعت قبل شراء العربة بأكثر من نصف قرن.
معاناة الفلسطينيين
• وعليه، بمرور الوقت تنبه الفلسطينيون لما يجرى من خطف لوطنهم، فتصاعدت انتفاضاتهم ضد الممارسات الصهيونية، التى كانت تتمدد بالدعم البريطانى.
• إيجازًا، تتالت النكبات الكبرى، ومن أشهرها نكبة 1948، ثم نكبة 1967، إضافة إلى نكبات المستوطنات، ومؤخرًا نكبة إبادة غزة.
لقد وُصفت القضية الفلسطينية باعتبارها «القضية المركزية للمنطقة العربية»، وهى بالفعل كذلك، غير أن التآزر المؤامراتى الغربى/الصهيونى كان أقوى من إدراكات وإمكانات العرب فى التعامل مع قضيتهم.
غزة المسجونة
مع عام 2007، جرى تشديد حصار غزة بحيث صارت أكبر سجن فى العالم. وبينما لم تنجح محاولات شعبية وسياسية وفدائية متكررة، على مدى نحو عقدين، فى كسر حصار غزة، فجأة، فى السابع من أكتوبر، يفاجأ الجميع بطوفان الأقصى، الذى تمكنت فيه المقاومة من مجابهة التسيّد التكنولوجى الإسرائيلى/ الغربى والتفوق عليه.
لقد أثبتت أحداث غزة ليس فقط القدرة الفذة للمقاومة الفلسطينية على مجابهة المحتل، بل والانتصار عليه فى عديد من الأمور، وأيضًا كشفت القدرة اللانهائية للتضافر المباشر بين حكومات الولايات المتحدة وحلفائها فى دعم مخطط الكيان الإسرائيلى لاستهداف إبادة غزة، بأهلها ومؤسساتها وأبنيتها.
المغزى السلبى للارتقاء التكنولوجى
عن هذه الإبادة، استنتج «مالم» أن «التسيّد بالتكنولوجيات الراقية صار فى 7 أكتوبر بلا قيمة تذكر، لذا كان على هذا التسيّد أن يعود ليكون هو كل شىء».
دقة هذا التوصيف تجعل منه دالة على مغزى الارتقاء التكنولوجى عند النيوليبرالية والصهيونية، كأداة لإبادة الآخرين، مما جعل فى تحالفهما إرهابًا للبشرية مجتمعة، وخطرًا عظيمًا على الكرة الأرضية، حيث صار التطور التكنولوجى بالنسبة لهما وسيلة للتسيّد ولشيطنة العالم.
هنا نجد أن «مالم»، كباحث فى شئون البيئة، يربط بين إفساد المناخ من جانب وأحداث غزة من جانب آخر.
قهر محمد علي
النقطة المفصلية فى هذا الربط تتمثل فى لحظة تحطم عكا (أول نوفمبر 1840) بمدافع السفن التى تسير بالبخار، والتى تعتمد على استخدام الفحم المستخرج من تحت الأرض.
وعليه، تاريخيًا، كانت السطوة الحربية للمراكب البخارية، المعتمدة على طاقة البخار، بمثابة قوة الدفع التى هيأت للإمبراطورية البريطانية سيناريو إجبار حاكم مصر (محمد على) على التراجع عن رفضه لاتفاقية التجارة الحرة، وفى نفس الوقت التخطيط لإقامة اليهود فى فلسطين، ولجعل هذا الكيان الصهيونى شوكة لعرقلة تقدم المنطقة العربية.
وهكذا، مع تصاعد مسار الهيمنة العسكرية/السياسية الغربية، التى بزغت من منصة توصل الإنجليز لتكنولوجيا تسيير السفن بالطاقة البخارية، نشأت خطة تسليم فلسطين لليهود قبل منتصف القرن التاسع عشر، الأمر الذى استهدف المنطقة العربية بكاملها، حيث لم تكن فلسطين إلا مدخلًا.
بعدها، بأكثر من نصف قرن، اتُّخذت ترتيبات أكثر عملية لإنجاز الهدف الاستعمارى التاريخى، وتجسد ذلك فى «سايكس بيكو – 1916» (لتفتيت الإقليم العربى) و«وعد بلفور – 1917» (لاستصناع إسرائيل). هذا التلازم الزمنى لم يأت صدفة أو اعتباطًا.
من وقتها، صار لا حدود لتزايد النكبات البيئية، كنتاج لشراسة استخراج الوقود الأحفورى، ومنح تراخيص استخراج البترول والغاز، ومن ثم تواصل ارتفاع درجة حرارة الكوكب.
وأيضًا، صار لا حدود لمناورات تسليم فلسطين لليهود، وللحماية الغربية للكيان الإسرائيلى، ولمطامع الهيمنة على المنطقة العربية.
ربما هنا تجدر الإشارة، كخلفية، إلى توجه عقائدى احترازى غربى مزمن مضاد لنهضة المنطقة العربية، باعتبارها المنطقة الوحيدة التى تتمتع بكونها مهبط الديانات ومهد الحضارات، مما يساعدها على الاستنهاض (الحوار المتمدن – نحو فهم أعمق لخلفيات العداء الأجنبى للمنطقة العربية – 17 نوفمبر 2017).
لقد حملت غزة على كاهلها عبء فضح التضافر اللاإنسانى للرأسمالية الشرسة (أو النيوليبرالية) مع الصهيونية، الأمر الذى أدى إلى صحوة شعبية عالمية شكّلت «الوجدان الدولى الجديد».
وإذا كان هذا التضافر اللاإنسانى قد صار مكروهًا من جانب عموم المواطنين فى مختلف أنحاء العالم، فإن سلبياته التقليدية لا تزال تتحدى حرية الآخرين ومستقبلياتهم، الأمر الذى يؤجج استمرارية وجود الوجدان الدولى وتصاعد قوته، فضلًا عن انتشار الانعكاسات التغييرية التى نجمت – ويمكن أن تنجم – عنه شمالًا وجنوبًا.