يطل علينا من وقت لآخر مخطط بمسمى «اليوم التالى»، والذى يعنى ترتيبات إسرائيل (وحلفائها) لأوضاع غزة (والمقاومة الفلسطينية) بعد توقف إطلاق النار.
تكمن إشكالية هذا المخطط فى لاصدقيته، حيث صناعه هم أنفسهم القائمون على الإبادة الجارية فى غزة. وبالتالى، فمهما تلونت صياغته، يظل مقصده إرجاع قضية الحق الفلسطينى إلى ما كانت عليه من انحباس مزمن قبل 7 أكتوبر.
ذلك يعنى الالتفاف حول معنى أحداث غزة فى كشفها لعوارات النظام الدولى، وفى بزوغ اصطفاف فى الرأى العام العالمى مع الحق الفلسطينى، وضد بربرية إسرائيل وعنصريتها.
هذه الوضعية تستدعى الإشارة إلى نظرية الشواش Chaos، والتى تقول بأنه من شأن الأحداث الصغيرة أن تؤدى إلى ما لا يخطر على البال، تماما مثل حدوث عاصفة على الساحل الأمريكى الشرقى نتيجة «رفرفة جناح فراشة» فى اليابان.
بالاعتبار لنظرية الشواش نتساءل: ماذا يمكن أن تكون عليه الانعكاسات المستقبلية لأحداث غزة، والتى جعلت الإنسانية، فى كل مكان، ترفرف تألما وحزنا وقهرا؟
هنا، يأتى الإدراك بأن المستقبليات الناجمة عن أحداث غزة تتخطى التفافات «اليوم التالى»، ذلك لأنها قد شكّلت (وتشكل) ما يمكن وصفه بالمتبقيات Residuals، والتى يمكن لكل منها أن تُنشئ تنوعات من الشواشات Chaoes.
وإذا كانت «المتبقيات» كمصطلح تشير إلى ما يستمر وجوده على مدى الزمن من كيماويات أو مواد مشعة فى الأرض، أو فى الهواء، أو فى الأجسام ..إلخ، فماذا يمكن أن تكون عليه «متبقيات أحداث غزة»؟
• • •
ببساطة، وبعيدا عن ترتيبات «اليوم التالى»، ستسكن المتبقيات الناجمة عن أحداث غزة، ليس فقط فى النفوس والعقول، وإنما أيضا فى الزمان، حيث تمتد تأثيراتها وانعكاساتها بشكل يكاد لا تكون له حدود، مصحوبا بسلاسل لا نهائية من الشواشات.
ذلك يعنى تخطى المحتملات والممكنات المتولدة عن أحداث غزة لمنطق «اليوم التالى»، بل ووصولها إلى مسارات من نوع «ما ينبغى أن يكون» What ought to be، سواء بالنسبة للحق الفلسطينى، أو النظام الدولى.
من هذا المنظور يتناول الطرح الحالى طبيعة إشكاليات الشأن العام الدولى، وما طرأ عليها من مستجدات محملة بالمتبقيات، فيما بعد 7 أكتوبر.
أولا: طبيعة إشكاليات العالم قبل «7 أكتوبر»:
مع تعدد مشكلات وكوارث الشأن العام العالمى يكون الفهم لطبيعتها، من حيث نوعية التوجهات التى أدت إليها، أعظم أهمية من مجرد إحصائها، أو مجابهة كل منها على حدة.
هنا، يمكن الإشارة إلى أن الإشكاليات التى يعانى منها العالم تتمثل فى ملمحين رئيسيين، أولهما ما تشهده العلاقة بين «الفكر والقوة» من انحرافات، وثانيهما ما يترتب على ذلك من «سلاسل نقص القيمة»، دوليا ومحليا.
(1)عن انحرافات العلاقة بين الفكر والقوة:
بينما ينهض «الفكر» بالاعتماد على الحس المعرفى، فإن «القوة» تنشط من خلال العناصر (والعوامل) المادية، على غرار المال والسطوة الفيزيائية ..إلخ. وبرغم التباين التام بين معناهما (الفكر والقوة)، إلا أن الجدلية بينهما شديدة، وتبدأ بحقيقة أن للفكر قوة، وأن للقوة فكر (المستقبل بين فكر القوة وقوة الفكر – المكتبة الأكاديمية 2006).
معنى ذلك أن عموم أوضاع البشر (بحلوها ومُرها) تَنتُج من خلال وضعية التوازن بين كل من «فكر القوة» و«قوة الفكر»، حيث يؤدى الاختلال إلى حيودات وانحرافات.
لقد أدى الاهتمام بهذا التوازن، بعد الحرب العالمية الثانية، إلى نشأة عديد من التوافقات والاتفاقيات والكيانات، على غرار منظمة الأمم المتحدة، والإعلان العالمى لحقوق الإنسان، والبنك الدولى.. إلخ.
هذا، وبرغم ذلك كان العالم مؤرقا بما سُمىّ بالحرب الباردة، والناجمة عن سعى كل من قطبى العالم (الاتحاد السوفيتى والولايات المتحدة) للحفاظ على مكانته فى توازنية الفكر والقوة، مع محاولة التمدد لقوته.
أثناء الحرب الباردة كان «فكر القوة» هو المتحكم فى موضع رمانة الميزان بين الطرفين، بينما كانت قوة الفكر تبزغ لديهما فقط عند الضرورة، لتجنب الصدام المسلح بينهما (أزمة الصواريخ الكوبية نموذجا).
من جانب آخر، أرست بلدان العالم الثالث مفهوم «الحياد الإيجابى»، وأسست كتلة عدم الانحياز، كمحاولة للتأثير النسبى من خلال «قوة فكر».
وبرغم ملامح التوازن فى النظام العالمى ثنائى القطبية، إلا أن بعض الحيودات والمآسى قد جرت، مثل الحرب على فيتنام، وانقسام كوريا.
كل ذلك، وغيره، بينما القوى العالمية تتلامس برفق نسبى مع إشكالية غرس إسرائيل فى قلب المنطقة العربية.
بعدها، فى أواخر الثمانينيات، مع تلاشى القطبية الثنائية، وبزوغ هيمنة القطب الأوحد، بدأ «فكر القوة» من جانب الولايات المتحدة، يكون هو المهيمن، وبدون توازنات فاعلة.
وهكذا، مع تفرد الولايات المتحدة كقطب أوحد، أخذت ممارسات فكر القوة تتضخم، بينما تنحسر فاعليات قوة الفكر. من بين علامات ذلك يمكن الإشارة إلى:
• الحرب الشرسة طويلة المدى فى كل من أفغانستان والعراق.
• بزوغ (واستقواء) النيوليبرالية كقوة (رأسمالية شرسة) موجهة للعالم من خلال الإدارة الأمريكية، ومتضافرة مع الصهيونية العالمية، ومع ممارسات التطرف فى أى مكان فى العالم.
• تصاعد إيقاعات حماية القطب الأوحد (وحلفائه) للعنصرية والإرهاب الإسرائيليين.
• إقحام اتفاقية لحقوق الملكية الفكرية على اتفاقيات التجارة العالمية، مما أدى إلى إهدار عقد نقل التكنولوجيا للبلدان النامية.
• تجريم التصدى لجرائم الصهيونية.
2) عن سلاسل نقص القيمة:
فى ظل أحادية القطبية وهيمنة فكر القوة، تصاعدت سلاسل ممارسات نقص القيمة، دوليا ومحليا، ممثلة فى فاعليات الأنانية، والاتباعية، والفساد، وازدواجية المعايير، والمؤامراتيات، والإغراق فى الديون... إلخ.
لقد قاد ذلك إلى استفحال عورات النظام الدولى، والذى شهد ــ كمثال ــ التفاف أمريكا حول إرادة مجلس الأمن لتسهيل هجومها على العراق (2003)، ونهبه وتفتيته.
ثانيا ــ الشأن العام الدولى بعد 7 أكتوبر:
جاءت حركية المقاومة الفلسطينية فى 7 أكتوبر 2023 كمحطة تاريخية تدعو إلى إعادة التقييم، ليس فقط بخصوص الحق الفلسطينى، وإنما أيضا بخصوص مجمل أوضاع الشأن العام الدولى (غزة.. نقطة انعطاف النظام الدولى – الشروق – 30 يناير 2024).
فى هذا الصدد جاءت إشارة جوتيريش، أمين عام الأمم المتحدة، أمام مجلس الأمن: «أن هجمات حماس فى 7 أكتوبر لم تأت من فراغ»، وأنها «لا تبرر القتل الجماعى الذى تشهده غزة».
وهكذا، فى تصريحات جوتيريش تحذير من تمادى الإرهاب الإسرائيلى، والذى يجرى فى ظل عورات النظام الدولى.
لذا، صارت أحداث غزة بمثابة منصة لتقييم الشأن العام العالمى، الأمر الذى يتجسد فى عديد من المستجدات والإدراكات، والتى من قلبها تولد «المتبقيات».
فى هذا الصدد يمكن الإشارة إلى التالى:
1) ثبوت فرط الشراسة العدائية المزمنة للنظام الإسرائيلى ضد الإنسانية:
من معالم ذلك نجد:
• استمرارية قتل وتجويع وتعطيش أهالى غزة.
• تعمد الاغتيال النفسى للفلسطينيين قبل قتلهم جسديا، مثلا بمطالبتهم بالانتقال من الشمال إلى الجنوب ثم مطالباتهم بالعكس، مع تعمد تسليط النيران عليهم فى كل مرة، بعد إصابتهم باليأس المطلق Helplessness.
• التصريح بمرور سيارات الإسعاف لنقل المصابين، ثم تدميرها بمن فيها.
• تحطيم متواصل لجميع منشآت غزة.
• عدم الاستجابة للنداءات الدولية بإيقاف الإبادة.
• الكذب الإسرائيلى فى التبرير لعمليات الإبادة.
• إدمان إسرائيل لاتهام منتقديها بالعداء للسامية.
2) انكشاف الترابط العالى بين فكر القوة والمؤامراتيات:
من أمثلة ذلك:
• تحالف حكومى غربى ــ إسرائيلى مكثف، بقيادة الولايات المتحدة.
• الانتخابات الرئاسية الأمريكية كحلبة لإظاهر الدعم لإسرائيل، برغم الحركيات الشعبية الأمريكية المضادة.
• معاداة الإدارة الأمريكية لجوليان آسانج، وإدوارد سنودن، بسبب أدوارهما فى كشف المؤامراتيات.
3) التصاعد الحاد لموجات الرفض الشعبى العالمى:
من أهم هذه الموجات تلك التى شهدتها الجامعات الأمريكية، وحملات اليهود المناصرين للحق الفلسطينى.
4) خلخلة بين الشعوب والحكومات القائمة:
فى عديد من البلدان، الأجنبية والعربية، أدت أحداث غزة إلى تدنى رضاء الشعوب عن مواقف وتوجهات حكوماتها، أو الأنظمة التى تمثل هذه الحكومات، مثل جامعة الدول العربية.
لقد نالت هذه الوضعية من صدقية السلطات السياسية، الأمر الذى يُتوقع أن تكون له انعكاساته المحلية، وتبعاته العالمية.
5) بزوغ نوعى جديد لملامح قوة الفكر:
مع التعاظم الإرهابى لممارسات فكر القوة، بواسطة إسرائيل وحلفائها، صارت «قوة الفكر» تمثل المعادل الموضوعى المفتقد لمواجهة «فكر القوة». فى هذا الشأن تجدر الإشارة إلى ما يلى:
• تكرار استقالة شخصيات أمريكية حكومية مسئولة.
• مبادرات يهودية مناهضة للصهيونية.
• المبادرة الجنوب إفريقية فى توجيه الاتهام للكيان الإسرائيلى، والمطالبة بمحاكمته.
• صدور إدانات صريحة فى الرأى الاستشارى لمحكمة العدل الدولية ضد الممارسات الإسرائيلية.
وهكذا، ما نجم عن أحداث غزة يجعل فى متبقياتها منصات أخلاقية/سياسية للتغيير، الأمر الذى يستحق تناولات خاصة.
خبير صناعة الأدوية ورئيس هيئة الرقابة الدوائية السابق