المطبخ القبطي في العيد - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 1:52 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

المطبخ القبطي في العيد

نشر فى : الخميس 12 يناير 2023 - 8:25 م | آخر تحديث : الخميس 12 يناير 2023 - 8:25 م
يصف شارل عقل في كتابه "غذاء للقبطي" الصادر في عام ٢٠١٧ عن دار نشر كُتُب خان المطبخ القبطي بأنه "مطبخ المبالغات"، ويقصد بذلك أن المطبخ القبطي يبالغ في التقشّف في أوقات الصيام، ويبالغ في الترف في أوقات الإفطار، ويضرب لكلتا الحالتين مثلَين مختلفَين من عالَم المخبوزات: فطير الملاك الذي يتناوله المسيحيون أثناء صيام العذراء ويتكوّن من مواد تخلو من الدسم ويكون سريع التخمير والطهي ويُختَم بختم خشبي على شكل ملاك، والفايش الفطاري في عيد الميلاد وهو دقيق معجون بالحليب والزبد والسمسم ..إلخ ويُترَك عدة ساعات في داخل برطمان مغلَق ليتخمّر وبعد طهيه يحمّص على نار خفيفة. لكن هل المطبخ القبطي وحده هو الذي يوصف بأنه مطبخ المبالغات؟ إن نظرة سريعة على موائد رمضان العامرة تغنينا عن الإجابة. ثم أن شارل عقل يحاول تفكيك الارتباط الموجود في الثقافة القبطية بين الدين وأكلات معيّنة ويقول إن هذه الأكلات ترتبط بالمجتمع الزراعي الفرعوني بالأساس وليس بالعقيدة المسيحية، فلولا أن الفراعنة زرعوا خضار القلقاس في منتصف شهر يناير ما تناوله المسيحيون في عيد الغطاس، ومع تناوله توالت محاولات الربط بينه وبين تعميد(تغطيس في المياه الجارية وتطهير) المسيح في نهر الأردن، كأن يقال مثلًا إن الماء يغسل القلقاس من المادة اللزجة التي تلتصق به كما يتكفل التعميد بغسل الخطايا والذنوب، وهكذا ومع مرور الوقت وصلنا إلى أنه لا يوجد مسيحي يجادل في أكل القلقاس في عيد الغطاس. لكن هل هي الثقافة الغذائية القبطية وحدها هي التي تعود في بعض جذورها للعصر الفرعوني؟ صحيح أن شم النسيم ليس عيدًا إسلاميًا لكنه عيد لكل المصريين وفيه يأكل المسلمون والأقباط الرنجة والفسيخ والبصل الأخضر والملانة وكلها طقوس فرعونية. وبشكل عام هناك روافد تاريخية لكل المناسبات والاحتفالات والمطابخ، ولو دققنا النظر في أطباقنا سنجد فيها ما هو من أصل فاطمي وما هو من أصل عثماني وما هو من أصل فرنسي.. نحن نتاج لكل هذه الثقافات والحقب والمراحل، وعندما نقترب نحن أبناء الوطن الواحد من بعض سنكتشف مشتركات كثيرة لأننا تعرّضنا لنفس المؤثرات التاريخية، فلنفتح عزيزي القارئ أبواب المطبخ القبطي في العيد ولننظر ما وراءها.
• • •
يسبق الاحتفال بعيد الميلاد المجيد سواء في ٢٥ ديسمبر بالنسبة للكاثوليك أو في ٧ يناير بالنسبة للأرثوذكس والبروتستانت صيام الميلاد، وتختلف فترة الصيام بين الطوائف المسيحية الثلاث، فهي أسبوعان بالنسبة للكاثوليك، و٤٥ يومًا بالنسبة للأرثوذوكس، أما بالنسبة للبروتستانت فالصوم قد يكون لعدة أيام أو عدة ساعات وقد يكون مجرد امتناع عن أنواع محببة من الطعام دون غيرها إيمانًا بأن الدنس يأتي مما يخرج من الفم أكثر مما يدخل فيه. بشكل عام الأرثوذوكس هم الأطول صومًا على مدار العام فصيامهم يصل إلى حوالي مائتي يوم، ولا يمنع الأمر من أن يصوم مثلهم بعض الكاثوليك فالصيام هو في الأساس تدريب روحي قد يمارسه مَن يحتاج إليه ولا ينتمي بالضرورة لنفس الطائفة. ثم أن الأرثوذوكس يصومون صيام يونان لمدة ثلاثة أيام من الثانية عشرة ليلًا إلى ما بعد العودة من الكنيسة في حدود الرابعة والنصف عصرًا. وهذا الصوم الذي يمتنع فيه المسيحيون عن الأكل بتاتًا (تيمنًا بمكوث سيدنا يونس لثلاثة أيام في بطن الحوت) يشبه صيام المسلمين، ويطلقون عليه الصيام الانقطاعي أو صيام طيّ. ووارد أن يصوم مسلمون صوم العذراء كجزء من نذر نذروه لقضاء حاجة كالزواج أو الحمل أو النجاح. أما قصة مشاركة المسيحيين للمسلمين في صيام بعض أيام رمضان فمعروفة وشائعة. هذه الوشائج هي أقوى من كل القوانين التي تحارب التمييز الديني وتعاقب عليه، وهي على بساطتها فإنها تؤثّر أعمق مما نتخيّل بكثير، لكنها تحتاج إلى توطيدها خصوصًا عند الأجيال الجديدة التي تتحلّى بدرجة أقل من التسامح مع الاختلاف، وهي تحتاج أيضًا إلى الحفاظ على طابعها الرايح جاي إذا جاز التعبير، أي أن تكون دائمًا في الاتجاهين كما كانت عند آبائنا وأجدادنا. يقول شارل عقل "في معظم الأحيان يفرض المواطن القبطي على نفسه النظام الغذائي الرمضاني في الأماكن العامة عن طيب خاطر، أما إذا شعر بأن الأمر مفروض عليه، أو به شيء من الإجبار، تبدأ حينها عقده النفسية في التكتل". ويحكي شارل عقل عن معاناة التلميذ المسيحي الصائم من الروائح الزكية التي تنبعث من ساندوتش زميله التلميذ المسلم "خاصة إذا كانت محتويات الساندوتش بفداحة البيض بالبسطرمة مثلًا، التي تدركها الأنف البشرية عن بعد كبير"، لذا لزم التنويه. فعلى الرغم من كل محاولات التخفيف من قسوة الصيام عن البروتين الحيواني بابتكار أشباه هذا البروتين من أول الكريمر وحتى الجاتوه، ستظل البيتزا الخالية من الشحوم والدهون ذات قوام كاوتشوكي، وسيظل من الصعب الجمع بين "هذين العنصرين شديدّي التنافر: بيتزا وصيامي"، وهذا يعني أن شيئًا لا يخفف من معاناة الصيام عن البروتين الحيواني بما لا يحتاج لزيادتها من خلال المقارنة مع المفطرين.
• • •
نأتي لليوم السابق على عيد الميلاد المجيد، ويُحسن شارل عقل في وصف هذا اليوم وكيف يتم إعداد إفطار الصباح والغداء ظهرًا بأدنى حد ممكن من الاهتمام وبكثير من بواقي الطعام، فالجهد كله منصّب على طهي ما لذّ وطاب استعدادًا لوليمة المساء بعد العودة من القدّاس، وهكذا ومع أن هناك مائة طريقة لطهي الفول كما يقول إلا أن فول هذا الصباح يكون هو الأسوأ، كما يكون الغداء باردًا مقددًا. عائلة عقل لا تذهب عادة للقدّاس لأسباب كثيرة، منها الانشغال في الاستعداد للإفطار، وهو نفسه لم يذهب إلى القدّاس إلا مرتين، إحداهما وهو طفل، والأخرى كانت وهو شاب بعد تفجير كنيسة القديسين في ديسمبر ٢٠١٠. ويمكن أن نعتبر ذهابه للقدّاس في المرة الثانية نوعًا من التحدّي لمحاولة ترهيب المسيحيين في عزّ احتفالهم، أو محاولة لتعويض الغياب المسيحي عن قدَاس ٧ يناير. حتى إذا مرّت ساعات اليوم بطيئة بطيئة وانتصفت عقارب الساعة، وجب الاحتفال بالعيد والإفطار بعد الصيام. في جولة معايداتي السنوية على أصدقائي المسيحيين سألتهم: حاتفطروا إيه؟ كانت الفتّة قاسمًا مشتركًا أعظم بين الجميع وعابرةً للطوائف المسيحية، وهي وجميع النشويات الأخرى تأتي مصحوبة بأنواع مختلفة من اللحوم والطيور، لكن الديك الرومي لا يظهر إلا عند "المتفرنجين" كما قال لي صديق قاهري، ويقصد بهم مَن قضوا سنوات طويلة من الاغتراب في الخارج. وهذه المعلومة التي أكدّها لي آخرون -بدت لي غريبة بعض الشيء لأن جارتي مدام ليلى لم تغادر مصر ومع ذلك كان الديك الرومي ضيفًا دائمًا على مائدتها في إفطار الميلاد. كذلك حدثّني نفس الصديق عن طبق البيض المزعلل في عشاء العيد، وهذه كانت أول مرة أسمع فيها اسم البيض المزعلل الذي هو عبارة عن بيض مسلوق مقلي في السمن، فمع أن أبي كان يحب هذا النوع من البيض كثيرًا إلا أنه لم يستخدم الزعللة في وصفه أبدًا، وقد أخبرني أصدقاء آخرون أن هذا البيض يؤكل في الإفطار مع كوب الشاي باللبن وبسكوت النشادر والجبن الأبيض. أما صديقتي المحلّاوية فحكت لي عن أن إفطار العيد يكون عبارة عن لحمة رأس وكوارع وممبار، وهذه توليفة استغربها جدًا كل مَن أخبرته بها، ولعلها توليفة تخص عائلتها هي ولا ترتبط بمدينة المحّلة. وشدّد صديقي المنياوي على طاجن البامية باللحم واعتبره أساسيًا. واتفق الجميع على أن المهم هو التئام شمل العائلة على المائدة، وأن الاحتفال ينتقل من بيت الجد لبيت الأب لبيت الابن، وتلك سّنة الحياة. هذه اللّمة تناولها شارل عقل بشيء من النقد، فالجالسون حول المائدة لم يلتقوا على مدار العام، وفيهم الشره النهم، كما أن فيهم الانتقائي الذي يستعرض ما يحبه وما يزدريه.
• • •
ينام القبطي ليلته بعد هذا العشاء الدسم ليذهب صباحًا للاحتفال بالعيد في الكنيسة التي تعجّ بالمسؤولين والشخصيات العامة وبعض الفنانين. ومن الطقوس المتّبعة في هذا اليوم تكريم الحضور عن طريق تلاوة أسمائهم فردًا فردًا، وكذلك للتأكيد على أن مصر كلها جاءت إلى الكنيسة للتهنئة رغم أنف المتطرفين الذين يملّون التحذير من تهنئة المسيحيين، وكأن هذا الموضوع السخيف ليست له نهاية. ومع تلاوة الأسماء لابد من التصفيق، وهنا صنّف شارل عقل التصفيق إلى عدة فئات، وقد لاحظتُ ولع عقل بشكل عام بتصنيف الأشياء من أول السندوتشات حتى التصفيق. فهناك التصفيق المتوسط للأسماء غير المعروفة فلعل أصحابها أولاد حلال، والتصفيق المشوّش لأن أصحابها عليهم شبهة تعامل مع الإخوان المسلمين أو لأن أصحابها من مشاهير الأقباط وسبب الارتباك أنه من المفترض أن القبطي لا يصفّق لقبطي لأن العيد واحد، وهناك أخيرًا التصفيق التمثيلي لأصحاب المصلحة الذين يأتون للتهنئة طمعًا في أصوات المسيحيين في انتخابات البرلمان والنقابات. أما عدم التصفيق فيكون في الحالات الحرجة، فعندما ذُكر اسم محمد مرسي أثناء رئاسته انقطع التصفيق نهائيًا.
• • •
الكتابة عن الأكل في حد ذاتها ممتعة ولها مذاق ورائحة، أما الكتابة عن مطابخ الشعوب ومكوّنات الشعب الواحد فإنها أكثر من ممتعة لأن فيها تتداخل علوم الاجتماع والتاريخ والجغرافيا والاقتصاد أيضًا، ولأن فيها حميمية خاصة بين الكاتب وقلمه وكأنه يغمسه في الحساء بدلًا من الحبر.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات