الحجم له أحكام - نيفين مسعد - بوابة الشروق
الثلاثاء 23 أبريل 2024 8:06 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

الحجم له أحكام

نشر فى : الخميس 12 مايو 2022 - 7:30 م | آخر تحديث : الخميس 12 مايو 2022 - 7:30 م
يعترف رياض أن كثيرًا من تفاصيل مرحلتّي الطفولة والمراهقة انمحت بأستيكة من ذاكرته، فهو من الأصل ذاكرته ضعيفة.. يحفظ بسرعة وينسى بسرعة فلا يبقى عالقًا بذهنه مما حدث إلا أثر بسيط، مجرد أثر. أما وقد شارف الستين من عمره فقد كان لخلاياه عليه حق فمنها الذي كسل ومنها الذي ضمر فتحوّل النسيان إلى ظاهرة. إذن هو نسّاي جدًا، لكن مع ذلك فإنه لم يسمح أبدًا لصورة ملعب كرة القدم في المدرسة البريطانية للبنين بالإسكندرية بأن تفارق عقله. كان هذا الملعب عاليًا جدًا، يرتفع فوق فناء المدرسة بحوالي طابق بل قل طابقين، وهذا الوضع كثيرًا ما تسبّب له في إثارة بلا مدى عندما كان يصعد إلى الملعب أثناء الفسحة ليقوم بدوره المفضّل كحارس المرمى ثم يتدحرج نزولًا كما كان يفعل اسماعيل يس في أحد أفلامه الشهيرة. لم يفهم لماذا لا يكون فناء المدرسة ملعبًا للكرة كما هو الحال في كل المدارس الأخرى، وبينه وبين نفسه فإنه كان لا يريد أن يتغيّر هذا الوضع، فاللعب في العالي متعة والتدحرج متعة ورؤية المدرسين الذين لا يحبهم حين ينظر لهم من فوق وقد تحوّلوا إلى لُعَب صغيرة متعة لا تساويها متعة. لكن مع ذلك كان للملعب المرتفع وجه آخر غير محبوب، ففي بعض الليالي كان يحلم رياض بأن هناك عفريتًا ضخمًا يرفع ملعب كرة القدم فوق كتفيه، فيستيقظ منزعجًا خشية أن تهتز كتفا العفريت إياه فيسقط هو وزملاؤه من عل، يا سلاااام تخشى من السقوط من فوق أكتاف العفريت ولا تخشى السقوط من الملعب نفسه؟ نعم أنا حر في أن أختار ما أخاف منه، كان هذا الحوار الداخلي يدور بينه وبين نفسه عندما كان لا يريد الذهاب للمدرسة ويبحث عن حجة، وكانت حجته هي الخوف من أن ينفضه العفريت من فوق كتفيه، وكان يغيظه جدًا أن أمه لا تصدقّه مع أن مخاوفه كان لها أساس. وعندما بدأَت القراءة تأخذ رياض نسبيًا من الملاعب، تطوّر إحساسه تجاه ملعب مدرسته من الإثارة والخوف إلى الفخر، فلقد لاحظ إنه لم يجد في كل ما قرأ كتابًا واحدًا يحكي قصة هذا الملعب أو حتى يحتفظ له بصورة، مع أنه على المستوى الشخصي كان يرى أن هذا الملعب لا يقّل في عبقريته عن الكنيسة المعلّقة في مصر القديمة أو عن حدائق بابل المعلّقة في العراق أو عن جسر مانهاتن المعلّق في نيويورك، وهناك اضطهاد أكيد لملعب كرة القدم بالمدرسة البريطانية للبنين.
• • •
كان طقس الإسكندرية بديعًا في أول شهر أبريل. لسعة البرد محتملة وتغري بالتمشية واحدة واحدة على الكورنيش، تأبّط رياض ذراع مريم وراحا يسيران بلا هدف. هذه الإسكندرية هي عشقه الكبير، وفيها عاش حتى السابعة من عمره ثم انتقل إلى القاهرة حيث تعلّم وعمل بالإرشاد السياحي وقابل مريم مدرسة اللغة الفرنسية أثناء رحلة لها مع تلاميذها إلى أسوان. أجمل ما في هذا الثنائي رياض ومريم تلقائيته المدهشة.. قفزَت إلى رأس رياض فكرة السفر للإسكندرية دون مقدمات، وفي ثوانٍ كان يحمل حقيبة سفر صغيرة تكفيهما لقضاء ليلتين في فندق سيسيل حيث أمضيا شهر العسل. أجمل الأشياء هو ما يأتي دون ترتيب مسبق. بدا لهما الرصيف الواقع بين العمارات والبحر كأنه شريط فاصل بين إسكندرية وأخرى، فعلى اليمين توجد يافطة كبيرة تحذّر من لبس المايوه بعبارة "أترضاه لأختك" زرع مثلها السلفيون بطول الشاطئ، وعلى اليسار محل يوناني مهجور هو من بقايا التراث الكوزموبوليتان لعروس البحر المتوسط، وبحسابات النسبة والتناسب بين اليمين واليسار فإن مستقبل الإسكندرية يسير مع الأسف في اتجاه واحد. الآن فقط دخلَت البرودة إلى جسم رياض فالتفت إلى مريم ليتأكد أنها أحكمت لفّ الشال الكشمير حول نصفها الأعلى وأن كله تمام.. تيجي نزور مدرستي القديمة؟ قالها وهو متأكد من أنها لن تمانع، وحدث فعلًا، فلقد عوّدها رياض دائمًا أن تسير معه نحو الأمتع.
• • •
بين شارعّي أبوقير وأفلاطون في حي الشاطبي كانت تقف المدرسة القديمة وقد تحوّل اسمها من المدرسة البريطانية للبنين إلى مدرسة النصر للبنين، وعلى الضفة الأخرى من الطريق كانت توجد مدرسة النصر للبنات. تعجّب رياض من أن مريم لم تلحظ شيئًا مختلفًا فيه مع أنه كان واثقًا من أن زفة بالطبل البلدي كانت تحتفل داخل قفصه الصدري بالعودة إلى القديم. ها هي دكّة الحارس العجوز لا يجلس عليها أحد والباب الحديدي الأنيق كما هو وأشجار الكازورينا الوارفة وقد بدأت تزهر والممر الرخامي الطويل والفناء و.. و.... وها هو ملعب الكرة المعلق. عندما توقفا أمام الملعب العجيب أصابهما الذهول، تبادلا النظرات وتفاهما بدون ولا أي كلمة، كان لسان حالهما يقول ماذا أصاب الملعب المعلّق فصارت مسافته أقرب للفناء من المعتاد.. وصارت ثلاث درجات فقط تفصل بينهما، أين ذهبت إذن عشرون درجة على الأقل كان يصعدها رياض ركضًا وينزلها دحرجةً؟ تلّفت من حوله كأنه يبحث عن النشال الذي غافله وسرق طابقًا بل سرق طابقين كاملين كانا يفصلان بين الملعب والفناء، لم يجد النشّال، لكنه وجد مدرسًا في الثلاثينيات من عمره تبيّن لاحقًا أن اسمه فؤاد. ومع أن المنطق يقول إن هذا المدرس الشاب شاهد ما شافش حاجة مما حدث قبل نحو خمسين عامًا، لكن حرفيًا فإن برجًا من عقل رياض كان على وشك أن يطير، ومَن يدري فلعله لو سأل مستر فؤاد يكون هذا الأخير قد سمع أو قرأ عن الملعب المعلّق العجيب. قال المدرس بحسم: لا لم يكن هناك ملعب معلّق، هكذا كان الحال دائمًا، ولم يسبق لأحد أن أثار مسألة المسافة الكبيرة بين الملعب والفناء، كان بينهما ثلاث درجات ومازالت الدرجات الثلاث تفصل بينهما.
• • •
في طريق العودة كان رياض مع مريم وليس معها، نعم يسير ويعبر ويتجنّب السيارات وينحرف يمينًا ويسارًا حسب الحال، لكنه كان هناااااك بعيدًا بعيدًا يفتش عن الطابقين المفقودين، أيكون العفريت إياه قد أنزلهما من فوق كتفيه؟ أيكون مستر فؤاد قد أفتى بما لا يعرف بينما قامت إدارة المدرسة فعلًا بتقريب المسافة بين الملعب المعلّق والفناء؟ أتكون الدرجات قد تآكلت بفعل الزمن كما تآكلت فقرات عاموده الفقري؟ وضع صاحبنا كل الاحتمالات الممكنة والخزعبلية إلا احتمالًا واحدًا فقط لم يفكر فيه، وهو أن الطابقين اللذين حكى عنهما لمريم بل حكى عنهما للدنيا كلها لم يكن لهما وجود أصلًا، وأن طفل السادسة حين كان يصعد الدرجات الثلاث كان يتخيل أنها بعيدة عن الفناء بُعد السماء عن الأرض، وكل شيء يُنسب لما هو أصغر منه يكبُر. لم يمّر هذا اليوم على خير، وليت أن "رياض" لم يذهب للمدرسة وليت أن "مريم" لم تطاوعه على الذهاب، فلقد خلَقت زيارتهما تلك فجوة نفسية كبيرة بين الحقيقة والوهم، وكثير منّا يحب العيش في الوهم.. أحيانًا.
نيفين مسعد أستاذة بكليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة جامعة القاهرة. عضو حاليّ فى المجلس القوميّ لحقوق الإنسان. شغلت سابقاً منصب وكيلة معهد البحوث والدراسات العربيّة ثمّ مديرته. وهي أيضاً عضو سابق فى المجلس القوميّ للمرأة. حائزة على درجتي الماجستير والدكتوراه من كليّة الاقتصاد والعلوم السياسيّة – جامعة القاهرة، ومتخصّصة فى فرع السياسة المقارنة وبشكلٍ أخصّ في النظم السياسيّة العربيّة. عضو اللجنة التنفيذية ومجلس أمناء مركز دراسات الوحدة العربية ببيروت. عضو لجنة الاقتصاد والعلوم السياسية بالمجلس الأعلى للثقافة. عضو الهيئة الاستشارية بمجلات المستقبل العربي والسياسة الدولية والديمقراطية
التعليقات