تثير مسألة التعديلات الدستورية المرتقبة تساؤلات مهمة ومقلقة. هنا استعراض موجز لأهم هذه التساؤلات قبل أن نتوقف بالتحديد عند نص بالغ الخطورة وثيق الصلة بحركة الحشود الجماهيرية فى الشارع المصرى هذه الأيام. وهو جدير بوصف النصّ المفخخ.
تساؤلات
السؤال الشاغل للطبقة السياسية والقانونية هو هل سيقتصر الأمر على مجرد تعديل بعض مواد دستور عام 2012 أم أن التعديل سيتسع نطاقه ليكون بمثابة إصدار دستور جديد؟ الإعلان الدستورى المؤقت الصادر فى 8 يوليو واضح فى تبنى مفهوم التعديل الجزئى وليس صياغة دستور جديد. فالمادة 28 من هذا الاعلان تنص على (اقتراح تعديلات) على دستور 2012. ورغم صراحة النص الدستورى فالملاحظ حتى الآن أن الكثير من الرموز السياسية ورجال القانون يحبذون خيار صياغة دستور جديد. بالطبع يمكن فهم الاعتبارات السياسية للمطالبين بدستور جديد لكننا فى النهاية أمام نص واضح صريح يتحدث فى ثلاث من مواده عن مجرد إجراء تعديلات لدستور 2012. وبالتالى فالحديث عن دستور جديد يتطلب إصدار إعلان دستورى مكمل جديد يجيز هذا فهل ما زال ذلك ممكناً أو حتى مجديا؟
ليس أمامنا إذن سوى خيار التعديل الجزئى. ولهذا يجب أن ينصب النقاش حول نطاق هذا التعديل والمواد المرشحة له. هنا نلاحظ أن دستور 2012 المعطل يحتوى على 236 مادة يمكن تصنيفها إلى ثلاثة أنواع تتدرج بشكل تصاعدى من حيث الأهمية. النوع الأول ــ مواد تقليدية غير خلافية ويلحق بها ديباجة الدستور. وهذه مواد يمكن الإبقاء عليها مع معالجتها وضبطها من حيث الصياغة لانها لا تثير فى جوهرها خلافات سياسية او دستورية ولا تخلو من التكرار الذى يجب أن تنزه عنه صياغة الدستور. النوع الثانى ــ مواد مهمة وربما محل خلاف بين القوى السياسية المختلفة لكنّه خلاف غير جذرى ومثاله مواد الباب الثانى الخاص بالحقوق والحريات. فمثل هذه المواد يمكن الإبقاء عليها أيضا لانها محل قبول عام حتى منذ كانت قائمة فى دستور 1971. النوع الثالث ــ ويشمل مواد بالغة الأهمية تتعلق بالأسس الجمهورية للدولة. هذه هى المواد التى يجب ان ينصب عليها التعديل الدستورى بالأساس ومثالها المواد 4 و6 و10و33و51و76 و219 . ولا ننسى أن غياب التوافق الوطنى حول هذه المواد خلال المرحلة السابقة كان أحد المطاعن الأساسية فى دستور 2012.
نص دستورى مفخخ
لدينا نص دستورى مفخخ يجب نزع فتيل انفجاره المحتمل والمتكرر. وهو المادة الخامسة من دستور 2012 التى تنص على أن «السيادة للشعب يمارسها ويحميها، ويصون وحدته الوطنية، وهو مصدر السلطات وذلك على النحو المبين فى الدستور». وقد نقل هذا النص حرفياً فى المادة 2 من الاعلان الدستورى المؤقت مع تغيير طفيف. ويختلف هذا النص الدستورى عن نظيره فى دساتير معظم الدول الديمقراطية. فالنص المصرى لم يقرن ممارسة الشعب للسيادة بأن تتم من خلال السلطات والمؤسسات المنتخبة كما تفعل دساتير النظم الديموقراطية. مؤدى النص الدستورى المصرى بصياغته الحالية أن الشعب يمكنه ان يمارس سيادته بنفسه وبشكل مباشر بمعزل عن المؤسسات والسلطات المنتخبة. وهذا ما حدث بالفعل واستندت إليه الأحزاب والقوى السياسية المختلفة التى تظاهرت فى 30 يونيو والأيام التالية. فقد اعتبر الكثيرون من الساسة والمثقفين أن هذه الحشود التى غصت بها الميادين والشوارع والتى قدرت بالملايين تعتبر مظهراً من مظاهر ممارسة الشعب السيادة بنفسه.
قد يرى البعض أن عبارة «على النحو المبين فى الدستور» المعطوفة على ممارسة الشعب للسيادة تكفى كقيد أو كشرط لممارسة السيادة الشعبية لكن مثل هذا الاستنتاج لا يغنى فى الواقع عن وجوب اشتراط عبارة أكثر إحكاماً تفادياً لأية تفسيرات سياسية أو جماهيرية لمفهوم السيادة الشعبية وهو ما لا يتحقق إلا بعبارة مثل عبارة «من خلال السلطات والمؤسسات المنتخبة». ومن المؤكد أن هذا ما فطنت إليه الدساتير المقارنة مثل الدستور الفرنسى الذى ينص فى مادته 3 على أن «السيادة الوطنية للشعب يمارسها من خلال ممثليه بواسطة الاستفتاء. ولا يجوز لأية فئة من الشعب أو لأى فرد أن يستأثر بحق ممارسة السيادة». وكذلك تنص المادة 20 (2) من الدستور الألمانى على أن «الشعب هو مصدر جميع السلطات. ويمارس الشعب سلطته من خلال الانتخابات والتصويت ، ومن خلال أجهزة خاصة بالسلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية». ودساتير أخرى كثيرة تنص على أن الشعب لا يمارس السيادة إلا من خلال السلطات المنتخبة ليكون بذلك مصدرا لها. هذا هو الاتساق المفقود فى الدستور المصرى خلافاً لدساتير العالم المتقدم.
وجه الخطورة فى نص المادة 5 من دستور 2012 أنه يوحى بامكان استحضار نمط ممارسات الديمقراطية المباشرة على غرار ديمقراطية أثينا فى العصور القديمة وهو أمر تجاوزه العصر ويكفينا ما أثير من جدل حول تقنية google earth لحساب أعداد الجماهير فى الشوارع بديلا عن صناديق الاقتراع! الخطورة تكمن أيضا فى قدرة أية حشود شعبية معبئة أياً كانت وسائل تعبئتها فى ممارسة السيادة بنفسها ولنفسها. بطبيعة الحال هذا لا يصادر حق الشعب المصرى فى الثورة لكنه لا يستبعد فى الوقت ذاته احتمال أن نشاهد فى مصر ثورة أو ثورتين كل عام. هذه لعبة خطرة لا أحد فوق احتمال الوقوع فى حبائلها سواء من هذا الطرف أو ذاك!
المؤكد فى نهاية المطاف أنه من غير حلول سياسية للأزمة الراهنة تطلق عملية تصالح مجتمعى حقيقى ستمضى عملية التعديلات الدستورية فى طريق محفوف بالعثرات والمخاطر. ناهيك عن مجتمع مصرى يختزن اليوم من المرارات والضغائن ما لم يعرفه عبر كل تاريخه. وحده التوافق الوطنى الجامع لكل المصريين من دون إقصاء تيار أو فصيل هو ما يضمن ان تكون التعديلات الدستورية المرتقبة بوابة خروج من الأزمة. أما غير ذلك فقد يعنى العودة الى المربع صفر من جديد. لا تتركوا الشعب المصرى يلقى مصير «سيزيف» الذى قدر عليه أن يرفع الصخرة إلى قمة الجبل فما أن تسقط حتى يرفعها من جديد. وإلى متى؟
أستاذ بكلية حقوق الإسكندرية