«سن الأسد».. فنان عظيم يدين الحرب - محمود عبد الشكور - بوابة الشروق
السبت 11 مايو 2024 11:39 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«سن الأسد».. فنان عظيم يدين الحرب

نشر فى : السبت 13 يناير 2024 - 9:05 م | آخر تحديث : السبت 13 يناير 2024 - 9:05 م
هذه المجموعة القصصية التى ترجمها المترجم المعتبر سمير جريس، والتى صدرت عن دار سرد ودار ممدوح عدوان، تمثل تعريفًا حقيقيًّا بكاتبٍ ألمانى من أبرز كتاب القصة القصيرة فى القرن العشرين، وربما عبر تاريخها كله.
المجموعة بعنوان «سن الأسد»، وهى مختاراتٌ ممتازة للمترجم لبعض قصص الكاتب الفذ فلوفغانغ بورشرت، الذى عاش حياة قصيرة، صعبة ومؤلمة، لا تزيد على ستة وعشرين عامًا، ولكنه تمتع بموهبة باذخة، فقد كان ممثلًا، وترك ديوانًا للشعر، ورواية، ومسرحية مهمة بعنوان «فى الخارج، أمام الباب»، ومجموعة مدهشة من القصص، وتوفى فى سويسرا فى العام 1947.
هذا الشاب الموهوب عاش تجربة الحرب العالمية الثانية المريرة على الجبهة الروسية، أصابه المرض، وجرح فى المعركة، واتهم بالهرب من الميدان، وحوكم أكثر من مرة، وسجن، ثم تم تسريحة، فعاد إلى الحياة المدنية ليكتب ويمثل، ولكن المرض لم يمهله طويلًا. ورغم قلة كتاباته، فإنها كانت متفردة وشجاعة فى رفض الحرب، وهذه المجموعة «سن الأسد» تؤشِّر إلى قدرةٍ سردية لامعة، وتؤكد من جديد أن «بورشرت» كان يعرف جيدًا كيف يدين الحرب بدون هتافٍ أو صخب، وأنه صنع من مأساة الحرب لوحاتٍ فنية مكتوبةً.
أكرِّر دومًا أن سؤال الفن الأهم ليس ما تقوله، وإنما السؤال هو: «كيف تقول؟»، وكتابة بورشرت ناضجة فنيًّا بشكلٍ مذهل، وبعض قصصه يمكن أن تضعها جنبًا إلى جنب مع روائع القصة فى القرن العشرين.
مرارة التجربة لم تجعله يغفل شروط الفن، ولا جهد البحث عن معادل فنى لما يريد أن يعبِّر عنه. كثيرون أدانوا الحربَ فى مظاهراتٍ وندوات، ولكن بورشرت صنع من هذه الإدانة فنًّا باقيًا.
بناء القصة عنده يذكرنا ببناء قصائد الشعر، أو ببناء مقطوعة موسيقية، فهو يعتمد على الجمل القصيرة المعبرة، والحوارات الذكية، وهناك دومًا لحن أساسى وتنويعات، ميلودى متكرر وألحان متسقة مع اللحن الأساسى، أو متعارضة معه، مقدمة للوحة، وخلفية لها، خطوط حادة واضحة، وظلال تعطيها أعماقًا ودلالات.
لا نفتقد أبدًا لمسات واقعية سواء فى أجواء الحرب، أو فى رسم الشخصيات، أو فى خلق الأجواء بكل تفاصيلها، ولكن هناك إطارًا شاعريًّا طوال الوقت. إنه واقع الحرب القاسى، ولكن بعين شاعر، لا يرثى المدن المحترقة، والجنود القتلى، والرجال الجوعى فحسب، وإنما يرثى أيضًا إنسانية الإنسان، يرثى الزهور، والأشجار، والشمس الغاربة.
أما اللحظات التى يلتقطها فهى عجيبة، ولا يتعجل على الإطلاق فى الوصول إليها، وإنما ينسج خيوطه بدأب ومهارة، حتى يمتلئ القارئ بالمكان، أو بالحالة، أو بالصور، وفجأة تتفجر اللحظة مثل رصاصة، وكأنه يترجم قسوة الحرب وصدمتها، إلى بناء سردى يعادل هذا التأثير، مع درجةٍ عالية من ثراء الخيال، وتنوع المفردات، دون أن يكرر، أو يشعرك بالملل، رغم أنه يكتب عن عالم محدود وقاتم، ما بين ميدان قتال، ومستشفى، بل ومقابر، ولكنه يجد فى كل مرة معادلًا فنيا جديدًا يعبر من خلاله عن جيله الذى لم يودعه أحد.
فى القصة البديعة «سن الأسد» مثلًا، وهى قصة يمكن تدريسها كنموذج للقصة العظيمة، مثل قصصه المدهشة: «الخبز»، و«ساعة المطبخ»، و«يسوع يرفض الاستمرار»، و«شدو البلبل»، و«الجرذان أيضًا تنام فى الليل»، ينتقل بورشرت بسلاسة من مأزق مواجهة الذات فى زنزانة السجن، إلى دائرة طابور المساجين، وعذاب مراقبة الذين يدورون أمامك، حتى تظهر وردة سن الأسد بالقرب من الطابور، فتصبح هدفًا للسارد، وتبدو كما لو كانت معادلًا للحياة نفسها، فى مقابل موات السجن، والحكاية مستلهمة بالتأكيد من محنة سجن بورشرت، بعد محاكمته، رغم مرضه، فى أثناء الحرب على الجبهة الروسية.
أصابع الفنان هى التى شكّلت أيضًا حكاية جندى مهمته أن يقيس بجسده مساحة القبور المحفورة، وهى التى منحت الجندى لقب «يسوع». هى التى جعلت من فتات الخبز عنوانًا على الجوع، وحوَّلت ساعة المطبخ الباقية من البيت وأهله، إلى زمن متجمد يشهد على تراجيديا مات أبطالها، والتقطت طفلًا يحرس المكان الذى قتل فيه شقيقه الصغير، حتى لا تأكل جثته الفئران، وحولت الرءوس إلى كرات للبولينج. جعلت أصابع الفنان من الجليد كفنًا، ومن الشمس أنشودة وداع، ومن أغنية عيد الميلاد لحظة أمل تتحدى الفناء.
يمتلك بورشرت حلولًا سردية متنوعة بها الكثير من ملامح الحداثة، فمن انتقالات مونتاجية بمنطق التداعى فى قصة «فى هذا الثلاثاء»، يتفكك السرد إلى فقرات مكثفة كما فى القصة الممتازة «حكايات من كتاب المطالعة»، ومن قصة أقرب إلى حوارية كما فى قصة «الكانجرو»، ننتقل إلى ما يشبه بناء المنشور فى قصة «رد واحد»، ولكن بدلًا من عبارات منشور يدعو للاستسلام مثلًا، فإن السارد يدعو الجنود والمدنيين إلى رفض الحرب، وإلى أن يقولوا «لا»، يدعوهم إلى المقاومة، وعدم الاستسلام.
يمكن أن تعتبر المجموعة كلها مثل جدارية كبيرة مليئة بالتفاصيل: فى مقابل الرصاص والحرائق والجثث الملقاة، تظهر وردة، وتشرق شمس، وتبقى قطعة من قماش وردى، احتفظ بها جندى، من قميص حبيبته.
فى مقابل الأوامر، وتجار الحروب، وحفارى القبور، يحمل أحدهم طعامًا للأرانب، وينعكس شعاع على وجه رضيع، ويتعاون عجوزان على مقاومة الموت بكسرة خبز، ويرفض جندى أن يكون طرفًا فى المأساة.
إرادة الحياة تصارع شبح الموت، وهناك دائمًا فرصة لكى يتمرد الذين نُحتت وجوههم من موت وحنين على أوامر القتل الصادرة بحق من لا يعرفونهم، وهناك دائمًا حكاية مؤثرة عن جندى اسمه «موتسارت»، وجندى اسمه «رادى»، وعن قطة صغيرة وسط الحريق.
أما الكاتب فـ«الويل له إن لم يستشعر الخطر المهدد للبيت، عليه عند قدوم الخطر، أن ينفخ فى الأبواق، حتى تنفجر رئتاه».
طوبى للفنان، والمجد لبورشرت، نافخ الأبواق العظيم.
محمود عبد الشكور كاتب وناقد سينمائي وأدبي مصري
التعليقات