التليفون الأسود - داليا شمس - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 1:21 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التليفون الأسود

نشر فى : السبت 13 فبراير 2016 - 10:40 م | آخر تحديث : السبت 13 فبراير 2016 - 10:40 م
فى انتظار مكالمة لا تأتى أبدا.. تلك التى من شأنها أن تنقذ روحا من الإعدام، ظل التليفون الأسود القديم قابعا فى مكانه.. على الطاولة المخصصة له، المصنوعة من سلوك سوداء وحمراء وصفراء متشابكة، وعلى رفها السفلى دفتر التليفونات الضخم. لسنوات وسنوات كان التليفون الأسود «أبو قرص» وأرقام كبيرة بيضاء هو المتعارف عليه فى بيوتنا، بعد أن حل محل التليفون «أبو مانفلة» الذى ارتبط فى الأذهان بدوار العمدة وكلمات «آلو يا مركز».. تظل تلف فى «المانفلة» حتى ترد عليك عاملة السنترال فتمليها الرقم المطلوب.

وفى أحيان أخرى كثيرة كان على المتصل أن يتوجه إلى السنترال بشحمه ولحمه حتى يتسنى له إجراء مكالمة، لأن خطوط التليفون فى مصر عام 1952 لم يتجاوز عددها 62 ألف خط. وعندما يأتى دوره يتوجه نحو إحدى الكبائن الخشبية التى كان بعضها مبطنا لا يسمح بانتشار الصوت خارجها، وبعضها عاديا تتسرب منه الكلمات، فتسمع وأنت جالس فى موقعك بالصالة تفاصيل تسمح لك باستنتاج الباقى أو متابعة الحديث عموما. وهناك فى السنترال كانت عدة التليفون الأسود ذاته، قابعة مكانها، داخل الكابينة الخشبية.. لها وجود وحضور وكأنها شاهد على العصر وعلى العديد من المشاحنات وقصص الحب والفراق والموت والزواج والطلاق وخناقات الميراث وتقلبات السياسة وسوق المال وأوقات الصمت المطبق التى يكون احتمالها على الهاتف أقسى من الواقع.

***
شكل التليفون وتفاصيل ديكوره والكبائن الخشبية ثم الزجاجية ذات العملات المعدنية فى الشوارع، جميعها أصبحت من معالم زمن غابر، ينظر لها الجيل الجديد على أنها ضمن آثار حضارة قديمة يسمعون عنها. مظاهر حضارة أو ثقافة انتهت بانتهاء القرن العشرين، فبعضهم كبر مع التليفون المحمول خلال النصف الثانى من التسعينيات، ولم يعودوا يستسيغون فكرة التليفون المشترك أو الجماعى أو العمومى. صعب أن تشرح لهؤلاء الشباب فكرة وضع قفل كبير على التليفون الأسود الكلاسيكى حتى يتحكم الوالد فى الصادر والوارد من المكالمات، ولا فكرة أن ترتب مع أخيك الموجود بالخارج كى يتصل بالأسرة فى موعد محدد لدى أحد الجيران أو البقال أسفل المنزل، فيتشارك الجميع فى تفاصيل ما حدث على مدى الأسبوع. صعب أن تقنع أبناء هذا الجيل الذى يغير محموله كل سنة أو سنتين أحيانا، رغم ضيق ذات اليد، ألا يكون له تليفون شخصى لا يطلع أبواه على قائمة المتصلين، فهذا انتهاك للخصوصية، وأن تضع قيودا على استخداماتهم، فالتليفون هو أحد مؤشرات تطور العلاقات الاجتماعية والعائلية، منذ أن اكتشفه جراهام بيل سنة 1876 فى الولايات المتحدة الأمريكية، ومنذ أن دخل مصر بعدها بسنوات قليلة فى العام 1881 مع إنشاء أول خط تليفونى يربط بين القاهرة والإسكندرية.

***
حتى على مستوى الفرد يمكنك أن تتابع ما طرأ عليه من مستجدات من خلال علاقته بالتليفون: بعد الزواج تزداد كثافة الاتصال بالأهل، التى قد تعوض الزيارات، نظرا لضيق الوقت. وفى المقابل قد يتراجع حجم المكالمات الموجهة للأصدقاء. ومع وجود أطفال يطغى الطابع العائلى على المكالمات أكثر وأكثر. أما فى حالة الطلاق أو العيش منفردا يصبح للتليفون أهمية أكبر، وينطبق ذلك أيضا على الشباب. لا تراهم وهم يقفون فى الطابور أمام أحد الأكشاك بالقرب من الجامعة لكى يعبروا عن أشواقهم بصوت خفيض لا يمكن أن تسمعه مهما اقتربت ومهما بذلت من مجهود. ولا يصطفون فى السنترال، فتراقب سلوك أحدهم وهو قابض على سماعة التليفون الأسود مرة بعد المرة ومكالمة تلو الأخرى. وبدلا من أن كان استخدام التليفون فى بداياته مقصورا على أصحاب النفوذ والمال، ويعطى الأولوية للمكالمات الخاصة بالعمل وتسيير الأمور، أصبحنا نتكلم مجانا من خلال تطبيقات بعينها فنتابع ما تطبخه الابنة خلال حديثها مع الأهل، من بلد إلى بلد. يتابعون حياتها اليومية، إذا أرادت، ويتعرفون على بيتها عن بعد، حتى لو لم تتح لهم زيارته. تكتب لهم رسائل قصيرة على الهاتف، بدلا من الخطابات، وتتغير لغة التعامل والحديث والكتابة.

***
اختفى التليفون الأسود «أبو قرص» وصار مكانه الطبيعى محال بيع التحف، فهذا هو تطور العصر الذى لا يمكن الوقوف ضده. لا يمكن أن تفرض على جيل أدوات ومفاهيم زمن انتهى.. فحتى الأفلام كانت العديد من نهاياتها ستتغير بوجود المحمول، فلن ينتظر الأبطال مكالمة مجهولة أو حاسمة، وهم ملتفون حول تليفون أسود قديم، فى انتظار ما لا يأتى أبدا.
التعليقات