لماذا مدائن العقاد؟! (8) - رجائي عطية - بوابة الشروق
الخميس 18 أبريل 2024 2:32 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

لماذا مدائن العقاد؟! (8)

نشر فى : الأربعاء 15 يناير 2020 - 10:00 م | آخر تحديث : الأربعاء 15 يناير 2020 - 10:00 م
بدأ اهتمام الأستاذ العقاد بالمعرى، من ثلاثينيات القرن الماضى، فكتابه «رجعـة أبى العلاء» ـ الصادر بالقاهرة سنة 1939، قد سبقه نشر معظم فصوله فى تواريخ مختلفة من نوفمبر 1937 بالبلاغ، وبعد صدور الكتاب، أعيد نشره ـ لأهميته ـ عام 1944، وأصدرت دار الهلال سنة 1916 طبعة أخرى له، ثم أعيد نشره ضمن المجموعة الكاملة لمؤلفات العقاد ـ بيروت 1980، وأعادت دار الهلال نشره سنة 2007، وقد تناولته تفصيلا فى المجلد الأول لمدينة العقاد.
وفكرة الكتاب تقوم على افتراض اختاره العقاد لإدارة الحديث مع المعرى بلسانه، وهى فكرة اختارها لعرض فلسفة أبى العلاء المعرى فى موضوعات شتى، بعضها يرجع إلى ما كان فى زمانه، وبعضها مستقى مما يجرى فى زماننا.
ودارت حوارات العقاد الافتراضية مع المعرى، فيما دارت، حول الجبر والاختيار، والموقف من الاستشراق والمستشرقين، والمقارنة بشوبنهور، والاختراعات الحديثة، واللعب بالعبقرية، والزهد، وما فى الصين ومصر وبلاد الإنجليز.. وموضوعات أخرى.
ليس كل الزهد زهدًا حقيقيًّا نابعًا من اكتفاء أو تعفف أو استغناء، فقد يكون الزهد اضطرارًا نابعًا مما ليس منه بدّ، إلى هذا المعنى أشار العقاد فى الحديث الافتراضى الذى أجراه على لسان المعرى فى كتابه الضافى «رجعة أبى العلاء».
فقد قال المعرى لزائرى ضريحه، الراغبين فى تكريمه فى ألفية وفاته أو بالأحرى
ميلاده: «لا يغرنكم يا أبنائى أننى أزهد فى المديح، وأننى أسكن إلى الزهد فيه، وفى المجد والسلطان.. فما أبرئ نفسى من كبرياء، وما أزعم أننى اخترت العزلة والفاقة عن صغر فى المطامع أو قناعة بالحظ الوضيع، ولكننى لا أرى لأحدٍ عيشًا فى هذه الدنيا إلاَّ أن يسودها أو يستخف بها ويعرض عنها»..
وقيل للمعرى فى هذا الحوار الافتراضى العميق إنه لا تخفى على سامعيه خافية من هواجس ضميره، ولا تغيب عنهم خالجة من خوالج طبعه.. وأنه مناضل «مكبوح» ومغامر
«محبوس»، وأن نفس «الزاهد» منه لمقرونة بنفس «السيد» الذى لا يدين فى الحياة لغير حكمه، ويأنف أن يموت حتف أنفه، وأنه قد عاش هكذا فى عالم الرأى.. آمرًا لا يأمره الحاكمون، وأبيًّا لا يخضعه غالبون أو مغلوبون.. وأنه لطالما تردد بين القلم والسيف..
حمل هذا الحوار الافتراضى معانى عميقة، شديدة الغور، فى قراءة النفس البشرية، فقد لا ينجح صاحبها فى نيل المطالب التى يتطلع إليها، ونيلها لا يتحقق بمجرد التمنى، وإنما وكما قال الشاعر: «تؤخذ الدنيا غلابا».. وليست كل مغالبة ناجحة ظافرة فى كل الأحوال، فقد تُمْنى بالهزيمة والخسران، فإذا كان المرؤ مخيرًا بين أن يسود ويعز ويتملك، أو يخفق ويبوء بالخسران، فلا بأس إن صادفه التوفيق ونال مبتغاه وما يتمناه، فانسلك فى سلك أصحاب السؤدد والعز والغلبة، أما إذا أفلت أمله، وخاب سعيه، فإن الأكرم له أن يلبس ثوب الزاهد المتعفف، وأن يستر ما أخفق من سعيه بأنه هكذا أراد!
ومرد الزهد الحقيقى إلى سجية «الصدق مع النفس».. فهذه سجية مانحة، إليها شمائل الأمانة والوفاء، والبذل والعطاء، والحلم والرفق والأناة، والزهد والتعفف والاستغناء..
والاستغناء الحقيقى تحرر، لأن المستغنى لا تحوجه حاجة، ولا يذله مطلب، ولا تسيطر عليه شهوة، ولا يرجو غنيمة، ولا يأمل فى مظهر أو صدارة، ويغنيه أن قيمته فى نفسه، وأن بواعثه أحرى بعنايته من غاياته.. فالباعث صدقٌ نابع من الداخل، أما الغاية فقد تستقيم وقد تنحرف أو تنجرف أو تنخدع أو تضل أو تتنكب الجادة!
الزهد شميلة الراغب فيه المقبل عليه، وليس المضطر إليه.. ومن يتأمل حياة المعرى، يرى كيف رَاضَ «رهين المحبسين» نفسه على زهدٍ حقيقى تعامل به مع الحياة، راغبٍ فيه، راضٍ عنه، ومن هذه الرياضة الطويلة استوى للمعرى صبره وزهده، مع إيمانه وتقواه، وفى أكثر من رواية للأحاديث القدسية أن الله تعالى إذا ابتلى عبده بحبيبتيه ـ أى بعينيه ـ فصبر واحتسب، لم يرض له ثوابًا غير الجنة.
فى مقدمة العقاد لكتابه عن المعرى، أن من علامات الخلود ثلاثًا، من اجتمعن له كان من العظماء، ودان له الخلود.. فرط الإعجاب من محبيه ومريديه، وقد نال المعرى كثيرًا من ذلك.. وفرط الحقد من حاسديه وشانئيه، وقد تحمل المعرى كثيرًا من ذلك، وأخيرًا أن يكون فى حياته ما يُستكثر على القدرة الآدمية، ويعزى إلى الإعجاز أو الأسرار، وقد كان للمعرى نصيب من الخوارق والأعاجيب.
لقد مضى على مولد المعرى أكثر من ألف سنة هجرية، ولد فيها كثيرون، ومات كثيرون، وتكررت حادثات الميلاد والموت، ومع ذلك بقى مولد المعرى حدثًا فردًا لم يتكرر فى هذه المئات من السنين، وبقيت أعماله خالدة يطلبها الباحثون وراغبو الإطلال على فلسفته وأدبه وأشعاره إلى ما شاء الله.
صاحب الجلالة المعرى
أضفى العقاد على «المعرى» لقب صاحب الجلالة، لشيمة من شيمه هى شيمة
«السمت والوقار»، أو هى كما نقول فى العصر الحاضر أدب البيئة وأصول «اللياقة».
ويرى العقاد أن هذه الشيمة هى فى الواقع وازع قوى عظيم الهيمنة على جميع النفوس، وكان تأثيرها فى أبى العلاء المعرى عظيمًا.
فالرجل قد يقدم على ما يشاء من المحظورات غير حافل بالعقاب أو سوء المآب، إلا المحظور الذى «يسقطه» فى نظر الناس ويخل بقواعد المروءة فى البيئة التى يعيش فيها أو ينتمى إليها.. فقد يكون المسلك جالبًا للزراية فى بيئات، وربما يوجد من يتباهى به فى بيئة أخرى!
على أن من الخصال ما يُتَّفَق على الزراية به فى جميع البيئات، وقد كانت «الخلاعة» هى غاية السقوط عند العرب أو عند المتكلمين باللغة العربية، فالأصل فى الخليع أنه الرجل الذى يخلعه أهله ويتبرأون منه، ومن ثم كان جالبًا لنفسه أكبر العار حتى وإن لم يقارف شيئًا من معاصى الدين أو مخالفات القانون على حسب العرف الحديث.
ويرى العقاد أن المعرى من الأمثلة البالغة على سلطان البيئة أو على سلطان أدب
«اللياقة» وأدب العرف والتقاليد.. فالمعرى حكيم قد عرض على فكرة كل أصل من أصول الحكمة وكل مذهب من مذاهب الدين، فلم يقبل منها إلا ما ارتضاه برهانه، ولم يتخذ لنفسه إمامًا غير العقل، وهو بعد هذا كله أسير «أدب اللياقة» يمنعه هذا الأدب ما ليس يمنعه شرع ولا فلسفة ولا عقيدة.. وذلك هو «السمت اللائق» فى البيئة.
كان المعرى يتحرج مما لا يتحرج منه كثيرون، ويحظر على نفسه ما يبيحه آخرون، وأنه ليحسب «الوقار» جمالا لا يدانيه جمال فى الرجال، فإذا خشى أو حذر من الشيخوخة آفة، فإنه ليحذر أن يدركه الخرف.. ويقول:
وما أتوقى والخطوب كثيرة: من الدهر إلا أن يحل بى الهتْر
فكأنه يقف بالدين والفلسفة عند باب العقل، ثم يقف بالعقل عند باب الوقار أو أدب اللياقة.
ومرجع ذلك فى حياة المعرى إلى عدة أسباب، لا إلى سبب واحد.. مرجعه إلى تربية الأسرة، وإلى الخليقة العربية التى قوامها الشرف والعزة ورفض الابتذال والهوان، وإلى فقد بصره الذى يكفه عما يمارسه البصير من الشهوات آمنا الفضيحة بحذره، وهو ما لا يأمنه الضرير، فليس أمامه سوى الزهد والوقار، أو الفضيحة والعار! ومرجعه فضلا عن ذلك إلى كبريائه وعزة نفسه التى تمنعه مما قد لا يمنع نفسه منه الضرير المنقاد للشهوات!
يرينا العقاد أن المعرى بهذه الشيمة ـ كان لا يرضى من الدنيا إلا بالسيادة عليها أو بالإعراض عنها.. فإما المُلْك وإما الرهبانية، ولا توسط عنده بينهما!
لا يحسب العقاد أن «فكرة الملك» عارضة فى ذهن المعرى كما يعرض الخاطر فى خلد الشاعر، فإن «للمجد الدنيوى» لنزعة مكبوتة فى قرارة ضميره، يدل عليها شعره ونثره، ولا تزال غالبة عليه فى حجمات الأهواء وفلتات اللسان.
ويسوق الأستاذ العقاد أبياتًا للمعرى، لا تبدر فيما يقول من رجل يمزح حين يقول: «كن فى الدنيا كثيرًا أو قليلا، فإما مليكًا أو راهبًا»..
وتلك مراجع شتى لعادة السمت أو «أدب اللياقة» فى خلائق أبى العلاء، فلم تغلبه شهوات على سمت الوقار الذى التزمه، فكان بشيمته وخلائقه صاحب جلالة فى عالم اللياقة.

Email:rattia2@hotmail.com
www.ragai2009.com
التعليقات