التحكّم فى الزيادة السكانية - مدحت نافع - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 5:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

التحكّم فى الزيادة السكانية

نشر فى : الإثنين 15 مارس 2021 - 7:15 م | آخر تحديث : الإثنين 15 مارس 2021 - 7:15 م

فى الجزء الثانى من كتابه الجامع «وصيتى لبلادى»، وتحت عنوان مفزع هو «التحدى الأعظم»، خصص الاقتصادى المصرى الكبير الدكتور «إبراهيم شحاتة» بابا هاما بعنوان «التحكّم فى الزيادة السكانية» وضعه قبل التعليم وانطلاق القطاع الخاص باعتبارهم يحققون معا أهداف النهوض التنموى لمصر.
وقد ضاق الدكتور «شحاتة» ذرعا بسياسة الإرجاء التى عوّلت عليها مصر فى مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، حينما ساد اعتقاد خاطئ بأن حل المشكلة السكانية إنما يكمن فى انتظار تساقط ثمار النمو الاقتصادى على المواطنين لتحسين أحوال معيشتهم. وعلى الرغم من كونه تفاءل عند نشر كتابه بتخفيض معدّل الزيادة السكانية من 2.6% فى المتوسط خلال الفترة 1980 ــ 1985 إلى 2% خلال الفترة 1990ــ1995 فإنه ظل يطمح إلى الاقتراب من المعدّل المقبول عالميا وهو 1.5% فى المتوسط خلال الفترة 2000ــ2005 الأمر الذى لم يتحقق حتى كتابة هذه السطور، علما بأننا مازلنا ندور حول معدّل زيادة يقترب من 1.9%.
التأخر فى تحقيق مستهدف الزيادة السكانية الذى اقترحه صاحب الوصية، والذى مازال مستهدفا فى تصريحات الأجهزة المعنية، يجعلنا نطمح إلى معدّل أقل خلال الخمسة أعوام القادمة. فإذا أردنا أن تؤتى أى عملية إصلاحية ثمارها فلابد ألا يزيد معدل نمو السكان عن 1% أو أن يتحول النمو إلى معدّل سالب خلال الفترة الحرجة التى تمر بها البلاد.
***
التراجع المستمر فى مؤشرات التنمية البشرية مقرون بزيادة شرهة فى أعداد السكان فى مصر، مع هجرة منتظمة للعقول النابغة، وتراجع ملحوظ فى عدد المواليد لكل أسرة من أصحاب الدخل المتوسط والمرتفع وأصحاب الوعى والإنتاجية الأفضل. وهو استنتاج منطقى، نظرا لكون ضعف الوعى وتراجع المستوى التعليمى فى محافظات بعينها ارتبط بعلاقة سببية بزيادة النمو السكانى فى تلك المحافظات.
وإذا كانت مخلوقات الله تعالى قد جبلت على التوقّف عن التكاثر والتعرّض لمخاطر الانقراض عندما تعيش فى بيئة فقيرة شحيحة غير مواتية، فإن هذا القانون لا ينسحب بالضرورة على جماعات البشر. فقد رأينا كيف تتراجع معدلات النمو السكانى فى أكثر البلاد ثراءً وأعظمها تحقيقا لمستهدفات التنمية البشرية، وتزداد فى دول تكافح أسباب البقاء بعناء شديد. نظرة واحدة على معدلات المواليد فى الدول الاسكندنافية أو دول أوروبا الغربية ومقارنتها بمعدلات مثيلة فى دول أفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية تعطيك ملمحا واضحا للطبيعة البشرية فى هذا الخصوص.
وعليه فإن الادعاء الحالم بأن أى زيادة سكانية (أيا ما كانت تركيبتها وخصائصها) يمكن النظر إليها باعتبارها فرصة وليس تحديا إذا ما تم تنميتها، هو حق أريد به باطل، أو هو فى أحسن الأحوال تعقيد للمشكلة بغية أن تنحل من تلقاء نفسها وبغير عناء! صحيح أن البشر هم قوام عملية التنمية والعمران، لكن العناية بهم واجبة حتى لا يتحولون من طاقات منتجة ومعمّرة إلى ماكينات استهلاكية متواكلة، لا تضيف شيئا فى محيطها المحلى، ناهيك عن إضافتها إلى البشرية. فالعناية بالبشر وتنميتهم يعوزها موارد كثيرة... وتكاثر البشر يرهق تلك الموارد ويزيدها شحّا، ويجعل نصيب الفرد منها فى تناقص مستمر، حتى ينخفض سقف الطموح الإنسانى فى تحقيق أسباب السعادة ودولة الرفاهة، وينشغل الناس بلقمة العيش وإشباع حاجاتهم الأساسية التى تقبع فى أدنى مستويات هرم «ماسلو» للحاجات. والنتيجة معروفة فإن هذه الحاجات والمتطلبات على بساطتها تصبح بعيدة المنال.
وإذا كان أهم أسباب التكاثر، المقترنة بضعف الوعى وقلة ذات اليد، هو استيلاد الإناث لعناصر الإنتاج الرخيصة متمثلة فى أطفال مسخّرين للعمل، من أجل أن تنقلب الآية، فيعول الأبناء آباءهم وليس العكس، فإننا لا نعجب إذا غابت عن تلك المؤسسة الفاشلة أيسر درجات العناية بالبشر، وهى العاطفة الصادقة الرحيمة الناصحة المطلوبة للصحة النفسية والعقلية للأسرة والمجتمع، والتى ينذر غيابها بتفشى الأمراض الاجتماعية وشيوع الجريمة والفساد والإرهاب فضلا عن الجهل.
***
من هنا كان من الضرورى أن نفهم الأسباب الحقيقية للزيادة السكانية، وأن نعزلها عن ذلك الستار الدينى المنتحَل، الذى يبرر كل إخفاق بشرى باعتباره من أعمال القدر، ويخلط بين عمارة الأرض وإفسادها بسذاجة سخيفة وتفانٍ عجيب!
توفير شبكة للأمان الاجتماعى من خلال مشروعات من نوعية «تكافل وكرامة» ونظام عادل للتأمينات والمعاشات... هو من الحوافز الإيجابية المطلوبة لتحقيق قدر من الاطمئنان لدى عائل الأسرة إلى أنه لن يحتاج إلى أبناء يأتى بهم إلى الحياة من أجل تأمينه فى الكبر ضد مصاعب العيش، هذا بفرض أن هؤلاء الأبناء يمكنهم بالفعل أن يعولوا أنفسهم وأسرهم الجديدة ناهيك عن إعالة آبائهم وأمهاتهم، مما يعمّق من مظاهر العقوق المحزنة فى المجتمع.
أن يقتصر نظام الدعم والرعاية التى تلتزم بها الدولة تجاه مواطنيها على مولودين اثنين فقط لكل أسرة هو حافز سلبى ضرورى للسيطرة على الانفجار السكانى، خاصة إذا ما اقترن هذا الحافز بنظام ناجز لمعاقبة استغلال الأطفال فى سوق العمل، ونجاح الدولة فى تحويلهم من مصدر رزق لأسرهم، إلى عبء عليها حيث يتعين إطعامهم وكسوتهم وتعليمهم كما شرع الله فى كل الأديان.
كذلك فإن تعليم الفتيات وخاصة فى الريف هو من المحطات الفارقة فى نجاح أى برنامج للسيطرة على الانفجار السكانى فى مصر. كما إن برامج التوعية عبر التلفزيون والدراما ومقررات التعليم الأساسى يجب أن تأخذ شكلا مختلفا مواكبا لطبيعة الأزمة ومحدداتها، وأن يراعى محتواها تباين الدوافع باختلاف الفئات العمرية والعادات المكانية والزمنية.
كذلك ينبغى أن تتوافر موانع الحمل بأسعار مناسبة وبالمجان لبعض الفئات، حتى ولو تم إضافتها على بطاقات التموين، فالعائد الاقتصادى والاجتماعى لتوفيرها أكبر كثيرا من ثمنها. من هنا تأتى أهمية القوافل الطبية الجوالة بين محافظات الصعيد وريف الدلتا، على أن يدعم القطاع الخاص ومؤسسات التمويل الدولية تلك الجهود، باعتبارها مصرفا من مصارف المسئولية المجتمعية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة.
ولا شك أن محاولات الدولة فى تحقيق توازن فى الإنفاق على تنمية المحافظات المختلفة، ورعاية الريف المصرى بمشروعات هامة مثل تبطين الترع وتحسين الطرق والخدمات تحد من تيار الهجرة الداخلية، وتعيد تخصيص الموارد البشرية على نحو يقلل من عمق أزمة الكثافة السكانية فى محافظات الحضر على حساب الريف، وفى القاهرة الكبرى والإسكندرية على حساب سائر المحافظات.
***
المشكلة خطيرة، والوطن ينزف عقولا نابهة لصالح دول المهجر فى الغرب المتقدم، سعيا وراء تحقيق الذات وتقديرها، بعيدا عن الزحام وسلبياته المتعددة والتى تنسحب على ظروف المعيشة بشكل عام فى مصر، وتنظر إلى محاولات تحقيق الرفاهة والسعادة نظرة مرتابة، سيما وقد ضاقت ظروف المعيشة على الكتلة الغالبة من السكان، بحيث صار البقاء بالنسبة لهم هدفا وحيدا.
أختم المقال بكلمات للدكتور إبراهيم شحاتة فى كتابه وصيتى لبلادى جاء فيها: «هل يصح فى أوضاع كهذه أن يظل البعض مترددا فى إعطاء أولوية عظمى للمسألة السكانية؟ أو أن يتركها لتحلَ نفسها بنفسها على مدى فترة طويلة جدا تعانى مصر خلالها من هذه الأخطار البالغة؟ كان الوضع يختلف طبعا لو أن متوسط دخل الفرد فى مصر كان عاليا، عندئذ كان يمكن أن يزيد المصريون من عددهم كيفما شاءوا دون ضرر، مادام معدل الزيادة فى السكان يقل أو على الأقل يوازى معدل النمو فى الدخل، لكن الأمر يختلف كثيرا فى الواقع لأن متوسط دخل الفرد فى مصر منخفض جدا».

كاتب ومحلل اقتصادى
الاقتباس:
أن يقتصر نظام الدعم والرعاية التى تلتزم بها الدولة تجاه مواطنيها على مولودين اثنين فقط لكل أسرة هو حافز سلبى ضرورى للسيطرة على الانفجار السكانى، خاصة إذا ما اقترن هذا الحافز بنظام ناجز لمعاقبة استغلال الأطفال فى سوق العمل.

مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات