«ليالي ألف ليلة».. واقعيتنا السحرية! - إيهاب الملاح - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 11:02 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

«ليالي ألف ليلة».. واقعيتنا السحرية!

نشر فى : السبت 15 أبريل 2023 - 8:10 م | آخر تحديث : السبت 15 أبريل 2023 - 8:10 م

ــ 1 ــ
لا يمضى رمضان أبدا من دون أن أعاود قراءة نص نجيب محفوظ الفاتن الساحر «ليالى ألف ليلة»؛ هذه الرواية التى لم تلقَ ما تستحقه من ذيوع وانتشار وشهرة حتى اللحظة!

لا يهم ــ هنا ــ كم قرأت هذه التحفة السردية حتى كدت أحفظها عن ظهر قلب؛ ولا يهم كم كتبت عنها معلقا أو محللا أو ناقدا أو مستشهدا بعبارات منها تجعل قارئها فى ذهول حقيقى من تلك القدرة البيانية «إن من البيان لسحرا» (صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم).

لكن يهمنى هنا هو هذا الحضور المتجدد والمتوهج لهذا النص الساحر الذى كتب فى أواخر السبعينيات من القرن الماضى، ونشر فى صورته الأولى على صفحات جريدة «مايو» لسان حال الحزب الحاكم آنذاك، ثم صدرت فى كتاب عام 1982. هذه سمة الأعمال الإنسانية الكبيرة الملهمة؛ ملهمة لقرائها مهما مرَّ عليها من أعوام وعقود، تثير فيهم هذا الإحساس الغامض المثير بالجمال، هذه المتعة التى لا تنفد من وراء الخيال، هذه القدرة على إثارة النوازع الدفينة داخل الإنسان للبحث والتأمل وطرح الأسئلة والكشف عن المجهول مهما كانت المخاطر التى تحوط مغامرة الاكتشاف هذه.

الغريب أن هذا النص الرائع لم يلقَ من العناية النقدية، ولا القراءة الفاحصة، ما لاقته نصوص أخرى لمحفوظ، ربما كان من أقلها تناولا (من حيث الكم) رغم أن هناك ما يشبه الإجماع بين مؤرخى الأدب ونقاده على السواء على اعتبار «ليالى ألف ليلة» واحدا من أنضج وأبرع نماذج الواقعية السحرية فى أدبنا العربى، إذا جاز التعبير والاصطلاح!

ــ 2 ــ
لم تكن رواية محفوظ الأولى (ولا الأخيرة) التى تتجه إلى كنزنا السردى الأعظم فى التراث العربى (ألف ليلة ليلة) لتستلهمه فى إنشاء نص روائى معاصر، يحمل همومه ويطرح أسئلته الوجودية والمعرفية والإنسانية، متوسلا بعناصر جمالية من التراث القصصى العربى القديم، فقبل رواية محفوظ كانت هناك «أحلام شهرزاد» لطه حسين، و«القصر المسحور» له ولتوفيق الحكيم، وبعد محفوظ بسنوات وسنوات، كتبت منصورة عز الدين «جبل الزمرد» وبين النصوص الثلاثة السابقة، نصوص ونصوص ونصوص!

لكن من بينها جميعا ينفرد نص محفوظ «ليالى ألف ليلة» بهذه القدرة المدهشة والمذهلة معا على محاورة «ألف ليلة وليلة» بجرمها الحكائى الضخم المعجز وانتقاء، من بين مئات الشخوص والوقائع والحكايات والإنس والجن والمدن الواقعية والمتخيلة، ما يحيل إلى علاماتٍ ورموز تنطق بأسئلتها، وتجسد همومها وأحلامها وتطرح رؤيتها السياسية والاجتماعية من خلال تشكيلها الجمالى، بصياغات غاية فى الإحكام والذكاء لطبيعة العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وتفكيك بنية الفساد الأخلاقى والاجتماعى والمؤسسى، وتحليل جذور التطرف والإرهاب والتمرد العنيف.. إلخ.

ــ 3 ــ
حصل ماركيز على جائزة نوبل للآداب عام 1982، فانطلق طوفان ترجمة روايات أمريكا اللاتينية، وخاصة ما يمثل تيار الواقعية السحرية فى العالم أجمع!

ومن وقتها ــ وربما حتى اللحظة ــ استحوذ تيار الواقعية السحرية على وجدان الجميع؛ كتابا وقراء، ونقادا وأفرادا عاديين، لكن نجيب محفوظ كان انتهى من كتابة نصه هذا فى نوفمبر من العام 1979 أى قبل حصول ماركيز على نوبل بثلاث سنوات، وقبل ترجمة عمله الأشهر مائة عام من العزلة بذات المدة.

ووعى محفوظ بثراء «ألف ليلة وليلة» وخصوبتها الجمالية، ومركزية حضورها فى التراث الإنسانى والأدب العالمى، يسبق هذا بكثير منذ قرأها فى صباه للمرة الأولى كاملة، ثم قرأها مرة ثانية قبل أن يشرع فى كتابة روايته تلك... يقول محفوظ فى واحد من حواراته مع محمد سلماوى:
«قصص «ألف ليلة وليلة» بثرائها القصصى غير المسبوق‏،‏ تُعتبر بلا شك من أهم القصص فى الأدب الإنسانى كله‏،‏ وإذا كان تأثيرها قد امتد إلى الآداب الأوروبية، وغيرها، فإن تأثيرها عندنا كان أشد وأقوى لأنها نبعت من هذه التربة، وكانت متشربة بتراثنا العربى، فعبرت عنه كأفضل ما يكون التعبير‏،‏ وفى الوقت الذى هى أعظم الفن القصصى فهى للأسف سيئة السمعة، ولم نكن نقرأها فى الصغر إلا مبتسرة ومراقبة لما فيها من مشاهد جنسية جريئة إلى أن قرأناها بعد ذلك كاملة‏،‏ ومن مميزاتها أنها عبرت عن أحلام الإنسان كلها‏،‏ لكن البعض كان يعطى لنفسه حق مصادرة جانب من هذه الأحلام، مما كان يؤثر بلا شك على شموليتها«».‏

ــ 4 ــ
وفى ذات الحوار، يكشف نجيب محفوظ لسلماوى عن إدراكه لهذا التيار المميز فى كتابة الرواية الذى استفاد أيما استفادة من «ألف ليلة وليلة».. وذلك حينما يسأله محمد سلماوى: وماذا عن الناحية الفنية فى ألف ليلة وليلة‏،‏ هل تجد فيها أسلوبا فنيا متميزا أم أنها كما تبدو للوهلة الأولى مجرد تتابع للقصص كل وراء الأخرى؟

فيجيبه الأستاذ‏ نجيب محفوظ:‏ ألا يتحدثون الآن عن أسلوب فنى جديد فى الرواية العالمية يعرف باسم الواقعية السحرية؟‏

إن بداية «الواقعية السحرية» هى هنا فى «ألف ليلة وليلة» التى مزجت ما بين الواقع والخيال، والحقيقة والسحر، كما لم يفعل أحد من قبل‏،‏ ولعل من كتبوا فى أمريكا اللاتينية مثلا بأسلوب «الواقعية السحرية» قد تأثروا بها‏،‏ لأن أغلبهم يعترف بالقيمة الفنية الكبيرة لـ«ألف ليلة وليلة».

بهذا الإدراك والوعى العميق بألف ليلة وليلة فى التراث العربى والإنسانى معا، وبتطور أشكال السرد فى الرواية العالمية، وظهور تيار الواقعية السحرية فى الأدب العالمى، سبق محفوظ الجميع، فى أدبنا العربى، بكتابته «ليالى ألف ليلة»..

ــ 5 ــ
ما من مرة قرأت فيها هذه الرواية إلا وتمنيت (والتمنى يكون للمحال!) لو أن محفوظ كتب أعمالا أخرى على غرار (ليالى ألف ليلة) أو حتى أعاد كتابة حكايات (ألف ليلة وليلة) القديمة كلها فى صورة روائية حديثة.. لو حدث هذا لكنا ظفرنا بكنز عظيم من الإبداع والفن الخالدين..

(وللحديث بقية)