قصة جدار - داليا سعودي - بوابة الشروق
السبت 27 أبريل 2024 4:52 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

قصة جدار

نشر فى : الإثنين 15 مايو 2017 - 9:35 م | آخر تحديث : الإثنين 15 مايو 2017 - 9:49 م
كان فى البدء جدارا عاديا فى حى «مالا سترانا» العريق فى قلب العاصمة التشيكية براج. جدارٌ جيرى خشن يقعُ قُبالة السفارة الفرنسية الأنيقة، ويحجز وراءه حديقة غَنّاء يملكها اليوم فرسان مالطة الهوسبيتاليون. جدارٌ عاديٌّ صَموتٌ، ينام فى حى النبلاء والأثرياء، حيث مرت مواكبُ تتويجِ الملوك منذ القرن الخامس عشر، واصطفت القصورُ والعمائرُ المهيبة وسط تلّال من الخضرةِ الباذخة، المطلة باستعلاء على نهر ﭬتلاﭬا وجسوره المزدانة بتماثيل القديسين والشهداء.
جدارٌ عادىّ. احتفظ بصمته فى كل المواسم وسط زئير الحرب العالمية الثانية وراء الحدود، ثم تحت وطأة الانقلاب الشيوعى على الجمهورية فى 1948، وعندما هبّت نسائم ثورة «ربيع براج» الجسورة المجهضة فى 1968، بقى الجدارُ على صمته وبياضه الأصم، حتى وهو يرى الحريات العامة تتقلص وتتلاشى تحت الحكم الشيوعى المستبد، وهو يرى الشباب والمراهقين يرزحون تحت نير الأدلجة العمياء، عبر برامج غسيل الدماغ الممنهج فى المدارس والجامعات ومؤتمرات الشباب. أما الراشدون فكانت يدُ الحزب الأوحد تسيطر عليهم عبر أجهزة الاستخبارات، حيث تمت مأساة رذيلة الوشاية، فراح الجار يشى بالجار، والابن بأبيه، والزوج بزوجه. ففى ذلك المجتمع الشمولى البغيض تحول كلُ مواطن إلى شرطى محتمل. واحتلت عين الأخ الأكبر أعلى بناية فى المدينة، ترصدو تتصنت وتعد الأنفاس على العباد. كما فُرضت قيود حديدية على حرية الحركة خارج البلاد، وعلى حرية الرأى، وعلى حرية العقيدة، ووُصم الدين بأنه «أفيون الشعوب».

***

مع كل ذلك، بقى الجدارُ فى حى «مالا سترانا» ناصعَ البياض، سادرا فى صمته، حتى وهو يرى مؤسسات الدولة تتحول إلى عرائس ماريونيت فى يد الحزب الشيوعى. بلى كانت هناك ثلاث سلطات: تشريعية وتنفيذية وقضائية، لكن ثلاثتها كانت كتلك العرائس التى اشتهرت بها مملكة بوهيميا فى العصور الوسطى، وبقى الشعب التشيكى محافظا عليها فى تراثه الفلكلورى التليد. عرائسٌ خشبيةٌ مدهونة الوجوه بألوان فاقعة، مربوطة الأطراف بخيوط ممتدة لأعلى، تحركها أصابع عليمة على خلفية سوداء أو حمراء. أما الحوار الذى تنطق به العرائس فيأتى من حنجرة وراء الستار، حنجرة واحدة، تتلون وتتلاعب، فتبدو وكأنها تقيم حوارا بين أطراف حقيقية متباينة، وتحيى جدالا بين أحزاب سياسية متعارضة، مع أنه صوتٌ واحد لشخصٍ واحد يفرض فى الانتخابات اختيار المرشح الشيوعى ولا أحد غيره، تحت تهديد الملاحقة القانونية!
هذا ولم تكن هناك مقاومةٌ تُذكر، لأن يد النظام كانت باطشة تقمع بعنف قاطع أى إخلال بالقوانين الصارمة، حتى بات كل فرد فى المجتمع أشبه بحشرة تدهسها قدم البيروقراطية الحاكمة. حشرةُ تذكرنا بتلك التى تحول إليها بطل رواية «الطفرة» (Metamorphosis) التى تنبأ فيها الأديب التشيكى فرانز كافكا بمآل الإنسان تحت وطأة النظم الفاشية. ليبقى وجه الحياة فى تشيكوسلوفاكيا الشيوعية أشبه بجدار حى «مالا سترانا»؛ أبيض وصامت وحزين، وإن أخفى وراءه دغلا من المشاعر الغاضبة المكبوتة التى تنتظر أى ثغرة لتخرج من إسارها، لاسيما وقد ساءت أحوال البلاد الاقتصادية وكثرت خطايا الفاسدين فى أروقة الحكومة.

ثم ذات صباح من شتاء 1980، طرأ تغيرٌ طفيف على الجدار. ففى إثر اغتيال المغنى البريطانى جون لينون، استيقظ أهل براج ليجدوا أن أحدهم قد رسم عليه وجه نجم فريق «البيتلز» المغدور. وفى مدينة تنضح عروقها بهذه الطاقة الإبداعية التى تتمتع بها براج، بدى ذلك الفعل العادى على ذلك الجدار العادى وكأنه توطئة لنشاط غير عادى. فقد توافد الشباب من شتى بقاع المدينة ليخُطّوا على الجدار عبارات التكريم لجون لينون، الذى لم يكن بالنسبة لشباب جيله مجرد مطرب حلو الحس عذب الألحان، بل كان بمواقفه الرافضة لحرب ﭬيتنام وأغنياته الداعية للحب والسلام أيقونة للتمرد فى وجه القبح والعنف والظلم.
راح شبابُ براج يزينون الجدار برسمات الجرافيتى وعبارات مستقاة من أغنيات لينون. بدى نشاطُهم فى البداية شاعريا تكريميا، وبدى وجه لينون كما رسموه شديد الشبه بوجه السيد المسيح؛ ثم ما لبث أن اتخذ نشاطُهم طابعا سياسيا ينتقى من أغنيات لينون أكثر العبارات رفضا للقمع وطلبا للحرية. وسرعان ما تحول الجدار الهادئ المستكين إلى مركزٍ لمقاومة الديكتاتورية ورمزٍ لحرية التعبير.
بالطبع تصدت السلطات الشيوعية لذلك بقوة، وتم مسح الجرافيتى وتبييض الجدار. لكن الطلبة التشيك عادوا بكثافة فأعادوا الرسمات وكتبوا العبارات. فعاد المحو على يد السلطات، ووقعت اشتباكات واعتقالات. لكن استمرت مباراة المحو والكتابة، ليكتسب جدار لينون مكانته كبؤرة للاحتجاجات التى ظلت تندلع بين الحين والآخر حتى قامت فى السابع عشر من نوفمبر1989 الثورة المخملية على الحكم الشيوعى فى تشيكوسلوفاكيا، قامت على ضوء الشموع، وعلى هدى العبارات المسالمة التى حفلت بها أغنيات جون لينون: «كل ما نطلبه هو أن تعطيَ السلام فرصة» كانت آخر أغانيه قبل أن يُقتل. وقبلها غنى «تخيل لو أن كل الناس عاشوا فى سلام.. يتقاسمون عالما واحدا».
***
تلك قصة جدار لينون الذى تحول اليوم إلى مزار سياحى سجلته منظمة اليونسكو ضمن التراث الإنسانى إعلاء لرمزيته العالمية الرحبة. إذ إن لحظةَ تَحول جدار براج الصامت العادى من جدار يُكرم جون لينون ويكرس أسطورته إلى رمز لحرية التعبير وللمطالبة بالحريات العامة هى لَعَمرى اللحظة التى تصنع مستقبل الشعوب.
***
سُئل الأديب التشيكى ميلان كونديرا ذات مرة عن الشيوعية فأجاب: «من ظن أن النُظمَ الشيوعيةَ فى وسط أوروبا كانت صنيعةَ حفنةٍ من المجرمين فقد خاب ظنُه لأنه يجافى حينئذٍ حقيقة أساسية، مفادها أن النظم الإجرامية ليست صنيعة مجرمين بل هى نتاج المتحمسين ممن ملأهم اليقين بأنهم قد اكتشفوا الطريق الوحيد المؤدى إلى الفردوس. وقد أنبروا للدفاع عن ذلك الطريق بكل ما أوتوا من قوة، حتى أنهم قد اضطُروا فى سبيل ذلك إلى قتل الكثير من الناس. ليتبين للجميع فيما بعد أنه لم يكن ثمة فردوس، وأن المتحمسين لم يكونوا سوى قَتلة...».
تستعيد ذاكرتى مقولة كونديرا تلك إذ أتأمل تمثال كافكا وحشرته التى تدهسها قدمٌ ضخمة على ناصية حى «چوزيفوﭪ» وأتساءل: متى تتعلم حارتنا الإنسانية دروس التاريخ؟

 

داليا سعودي كاتبة وأكاديمية مصرية حاصلة على جائزة الصحافة العربية
التعليقات