معضلة التنمية.. ونظرية الكشّاف الضوئي - مدحت نافع - بوابة الشروق
السبت 20 أبريل 2024 3:20 م القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

معضلة التنمية.. ونظرية الكشّاف الضوئي

نشر فى : الإثنين 15 مايو 2023 - 8:55 م | آخر تحديث : الإثنين 15 مايو 2023 - 8:55 م
فى عمل جديد من إصدار معهد التخطيط القومى، تحت قيادة استثنائية للدكتور أشرف العربى وزير التخطيط والتنمية الاقتصادية السابق، أمتعنا الأستاذ الدكتور عثمان محمد عثمان وزير التخطيط والتنمية الاقتصادية الأسبق بكتاب بديع بعنوان «تفكيك معضلة التنمية فى مصر: كيف نصنع التنمية ومن يقودها؟». وكعادة الدكتور عثمان فى مؤلفاته، يغوص بنا بدأب الحريص على خدمة وطنه، بين بدائل ومسارات التنمية التى كان من الممكن أن تقود مصر إلى موقعها الذى يليق بحضارتها ومكانتها التاريخية، مستلهما من ذلك العبر والدروس من خبرات الدول الأخرى، ومحلّقا فى آفاق الفرص التى ما زال من الممكن أن نصنع بها مستقبلا أكثر إشراقا.
الكتاب يبحر فى تجربتى الصين الشيوعية ومصر الاشتراكية بين عامى 1950 و1970، منتقلا إلى عقود تالية من الانفتاح الاقتصادى فى مصر، واستدامة ارتفاع معدلات النمو فى الصين محفّزا فى الأساس بمعدلات مرتفعة من الاستثمار، وحماية حكومية للصناعة على حساب مختلف الأنشطة. معضلة الفقر استحوذت على جانب كبير من اهتمام المؤلف، لافتا إلى أهمية مقومات التنمية البشرية لقياس تقدّم الأمم عوضا عن الاكتفاء بالنمو المادى وتراكم الثروات، مسلطا الضوء على التحوّل الصينى من الشيوعية إلى الرأسمالية واقتصاد السوق، وحل معضلة الخاص والعام ودور الدولة فى تشجيع القطاع الخاص.
ولم يفت الكتاب التركيز على تحدّى تفاقم المديونية فى مصر، باعتبارها متلازمة والعجز المزمن فى موازنة الدولة، الذى اعتادت الحكومات تمويله بالدين. ثم يختتم الدكتور عثمان فصول الكتاب بنظرة فاحصة فى استراتيجية 2030 فى الصين ورؤية مصر المناظرة، والتى يراها أكثر طموحا من إمكانات الدولة فى ظل محددات وقيود العملية التنموية، التى نادرا ما يلتفت إليها صانعو القرار الاقتصادى، بعد أن تعمل السياسة ألاعيبها لتشويش الرؤية والانفصال عن الواقع.
• • •
كانت هيمنة السياسة على القرار الاقتصادى ظاهرة فى التاريخ الذى اختاره المؤلف منطَلقا للمقارنة مع التجربة الصينية، وهو تاريخ سقوط الملكية فى مصر وبداية حكم الضباط الأحرار الذين دشنوا حكمهم بقوانين الاستصلاح الزراعى، التى رآها الكتاب ومصادره القديمة التى تعود إلى مؤلفات الاقتصادى الكبير روبرت مابرو (ولنا معه وقفات قريبة) محض دغدغة سياسية لمشاعر الفقراء من أهل الريف، وأن الأثر الاجتماعى لها كان ضئيلا إذ لم تقم بإعادة توزيع الأراضى إلا بالقدر اليسير، ولكن ضررها الاقتصادى كان عظيما، فناهيك عن تفتيت الرقعة الزراعية التى نعانيها اليوم أكثر من أى وقت مضى، فقد أضعفت قوانين الإصلاح الزراعى الثقة فى الدولة، وخشى الجميع تأميم ثرواتهم حتى فى مجال الأنشطة الأخرى، التى كان يسيطر عليها ذات الطبقة من مالكى الأراضى، مما انعكس بالسلب على إعادة استثمار أرباح النشاط الصناعى، إذ كانت الأرباح المحققة فى الشركات توزّع بالكامل عوضا عن احتجازها للاستثمار فى توسيع حجم النشاط وزيادة الإنتاج. أما عن الأموال الموزّعة على حاملى الأسهم، فلم تكن تخرج إلى أى نشاط منتج (يحتمل تأميمه) ، بل اتجهت نحو شراء العقارات (هل يذكّرك هذا بأى شىء؟) .
كذلك يلفتنا الكتاب إلى نموذج «آرثر لويس» الخاص بفائض العمالة فى المجال الزراعى، وكيف يوفّر مصدرا لانطلاقة صناعية حضرية، بعمالة رخيصة قادمة من الريف هربا من البطالة المقنّعة والأجور دون الكفاف، مشيرا إلى أن ذاك النموذج انطبق بشكل مذهل على الحالة الصينية، لكنه لم يفلح فى مصر أبدا، والسبب فى ذلك مرجعه أن الريف المصرى نادرا ما عانى من وجود فائض مستدام فى العمالة، بل عادة ما كانت البطالة موسمية، الأمر الذى لا يصلح أن يرفد القطاع الصناعى المصرى بهذا الفائض، باستثناء أنواع محدودة من الصناعات ذات الطابع الموسمى. وقد برهنت الإحصاءات حول القيمة المضافة للعمالة فى القطاع الصناعى على هذا الاستنتاج، بل إن مساهمة الناتج الصناعى فى الناتج المحلى الإجمالى أكدت على أن مصر لم تمر عبر نموذج النمو الذى عبرته الدول المتقدمة وكذلك الصين ودول شرق آسيا الذين انتقلوا جميعا من مرحلة قيادة القطاع الزراعى للنمو، إلى قيادة مستقرة وطويلة للقطاع الصناعى، ثم ختاما إلى قطاع الخدمات الذى عادة ما يعكس مرحلة من تطلع السكان إلى الرفاهة وتعزيز الإنفاق الاستهلاكى. بل إن مصر عبرت سريعا فوق تجربة صناعية غير مكتملة إلى انفتاح اقتصادى مرتبك قوامه الاستهلاك والاستيراد، علما بأن الادخار المحلى كان ومازال عقبة عنيدة أمام الاستثمار ومن ثم النمو المحفّز به، ولا مجال لتعويض ذلك الخلل إلا بجذب مستمر للاستثمار الأجنبى. تلك التجربة الصناعية غير المكتملة لم تسمح أبدا بتكوين قاعدة راسخة لانطلاق التنمية على ذات المسار الذى تبنته غالبية التجارب الناجحة.
غير أن الصين التى التزمت بالمسار المعتبر للتنمية لم تختر دائما النموذج المثالى للنمو، فالقفزة الصناعية الكبرى تطلبت تضحيات مؤلمة، وقامت على الاستثمار فى الصناعات الثقيلة كثيفة رأس المال وليس العمل كما ينبغى لدولة كثيفة العمالة والسكان، ونشأت التجربة على تخفيض للأجور وتكاليف المدخلات الصناعية جميعها لصالح تلك الصناعات، ولم يحقق ذلك القهر والتشوه لجهاز الثمن فى الأسواق ما كانت ترجوه الصين من نهضة فى أى وقت قصير، حتى انتقلت الدولة إلى نموذج مختلف يقوم على مراعاة التنمية البشرية ومكافحة الفقر.
وقد أشرت فى مقال سابق إلى محطات التنمية فى التجربة الصينية من وحى كتاب «جيفرى ساكس» المعنون «نهاية الفقر» والذى أكد فيه إلى أن «ماو» قاد ما عرف بالقفزة الكبرى إلى الأمام بين عامى 1958 و1961 والثورة الثقافية بين عامى 1966 و1976، ولكن «ساكس» وصف هذين المشروعين بالكارثة. فقد رأى أن القفزة إلى الأمام مخطط جنونى لتسريع التصنيع، من خلال ما يسمى بالفناء الخلفى لمصانع الصلب. وقد أمر المزارعين فى أنحاء البلاد بالتوقف عن الزراعة للبدء فى إنتاج الصلب فى مصانع صغيرة محدودة القدرات والكفاءة بشكل بائس. وقد انتشرت المجاعات على خلفية تلك السياسة، وساهم الإغلاق والقمع فى حجب المعلومات عن قيادة الدولة، حتى زهقت أرواح عشرات الملايين.
ثم جاءت الثورة الثقافية عام 1966 كمحاولة للسيطرة على المجتمع من قبل نظام «ماو» ودامت لعقد من الزمان، كانت محصلته: تعطيل تعليم الشباب، وانتحار وتشريد الكثيرين، وتدمير سبل العيش، وانزواء العلماء فى الريف، واستمرت تلك التداعيات حتى وفاة «ماو» والقبض على عصابة الأربعة عام 1976. ثم تولّى «تنج هسياو بينج» سدة الحكم فى عام 1978 والذى سطر تاريخا اقتصاديا وانفتاحا عظيما لدولة الصين.
منذ عام 1978 كانت الصين الاقتصاد الأسرع تقدما فى العالم، بمعدلات نمو تدور فى المتوسط حول 8% سنويا، بما ضاعف من متوسط دخل الفرد كل تسع سنوات. وقد عاش نحو 64% من سكان الصين بأقل من دولار واحد يوميا عام 1981، لكن تلك النسبة انخفضت إلى 17% فقط عام 2001 (وفقا لكتاب نهاية الفقر) .
• • •
الملفت أن كتاب تفكيك معضلة التنمية رجّح مقارنة التجربة المصرية بالتجربة الصينية لما للدولتين من عوامل تشابه فى زمن الانطلاق ومقومات التنمية، وذلك على حساب أى مقارنة بتجربة كوريا الجنوبية. لكننى أكثر اهتماما بفرصة ضائعة سابقة كانت اليابان فيها صنوا لمصر لدى انطلاق نهضتها الحديثة على يد محمد على باشا، والذى اهتم بالتعليم كما اهتم بالزراعة والتصنيع وبناء الجيش. وبينما عجزت الكثير من نماذج التنمية عن تفسير الحالة المصرية فى عدم اكتمال تجربتها التنموية، وتخلف الركب عن مواكبة اليابان ثم الصين وكوريا الجنوبية وغيرهما من دول شرق آسيا التى انطلقت بالتزامن مع طبعات مختلفة لحركات النهضة المصرية.. أزعم أنى قد وجدت تفسيرا مناسبا للحالة المصرية يمكن تسميته بنظرية الكشّاف الضوئى..!
مؤدّى تلك النظرية بسيط، وهو أن جميع التجارب التنموية فى مصر اعترضتها رغبة جامحة فى بقاء القوى الداعمة للتجربة تحت الضوء. ويقصد بالضوء هنا اهتمام سلطة أعلى بالمنتج التنموى الذى يتم صناعته. ورغم أن تجربة محمد على يصعب تفسيرها وفق تلك الأطروحة، غير أن الرجل قادته أحلام الاستقلال عن الباب العالى وصناعة مجد يخلّد الأسرة العلوية إلى المغامرة بمواجهة مبكّرة غير متكافئة مع الغرب. كان ذلك مشفوعا بقوة الكشّاف الضوئى الذى انجذب إليه حفيده الخديوى إسماعيل بشكل مختلف، حيث انجذب إلى أضواء أوروبا محاولا محاكاة مركزها الحضارى دون موارد بشرية ومادية ذاتية، حتى سقطت مصر فى فخ الديون ثم الاستعمار. لكن المؤكد أن مصر منذ عام 1952 خضعت بشكل كبير لنظرية الكشّاف الضوئى، الذى جعل عناصر الإنتاج جميع رهينة بحسابات السلطة (خوفا أو طمعا)، وهو ما جعل مصر تصنّف اليوم فى مرتبة متقدمة (المركز 14 بين 43 دولة يزيد ناتجها المحلى الإجمالى عن 250 مليار دولار) بين الدول التى تتراكم فيها ثروات أصحاب المليارات فى محفظة القطاعات المختلطة بنفوذ السلطة crony sectors على حد وصف مجلة الإيكونومست. وهى القطاعات التى يختلط فيها المال الخاص بأنشطة وأموال الدولة، وتتحقق فيها الأرباح بقوة مشاركة أذرعها الاستثمارية. المشروعات التى تفتتحها الدولة أو ترعاها أو تهتم بها هى التى تتجه إليها رءوس الأموال ثم سرعان ما تتخلى عنها إلى مشروعات جديدة تحظى بموجة اهتمام، لتكن إذن تنمية استهلاكية أو عقارية أو إسلامية أو خضراء... لكن المهم أن تكون فى كنف الدولة!.
إذا ابتعد عنك الكشاف الضوئى فقد صرت إلى الظل، فاترك مكانك وهرول نحو البؤرة الجديدة التى يتسلط عليها الضوء، أو اركن إلى الظل تلفحك نسائم العدمية المطلقة، واستعن على قضاء أيامك بالترفيه والمزاح، فأى عمل تصنعه بعيدا عن الضوء مصيره النسيان، وأى منتج تصنعه يداك سيتلف أو يذبل قبل أن تحقق منه أى منفعة.. فقد يعود الكشاف إليك يوما ما أو لا يعود أبدا..
هذا النموذج لا يخلق زخما أو استدامة تذكر وإن أنجز نجاحات متقطّعة، ولا يحقق تنمية شاملة قائمة على رؤية وخطط حقيقية معززة بموارد واقعية، وهى ما نطمح إليه فى قادم الأيام
مدحت نافع خبير الاقتصاد وأستاذ التمويل
التعليقات