برستيج الشغالة! - كارولين كامل - بوابة الشروق
الجمعة 26 أبريل 2024 9:34 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

برستيج الشغالة!

نشر فى : الإثنين 15 مايو 2023 - 8:55 م | آخر تحديث : الإثنين 15 مايو 2023 - 8:55 م
استلقيت على ظهرى، ونظرت إلى أعلى أراقب السحب البيضاء يطارد بعضها بعضا على خلفية زرقاء، تحجب الشمس قليلا، وتسمح بقشعريرة فى بدنى لتيار بارد مر خاطفا، فالصيف لم يحل بعد، إجازة برفقة الأصدقاء فى إحدى القرى السياحية بالعين السخنة، تتميز بالهدوء وقلة الرواد، إلا فى مواسم الإجازات والأعياد، أقرأ على الشاطئ، وأترك الكتاب، ولكن ترافقنى الكلمات وتحلق فوق رأسى، وأجد متعتى فى سرد كثير مما يدور بداخلى للكون حيث لا يسمعنى أحد، وحدها الكائنات البحرية تعانى.
فى هذا اليوم لم تكن الكلمات، ولكن «نحل العسل» بخطوطه البنية والصفراء، يحاوطنى ويدور مخترقا الأشكال الهندسية المرسومة فى الأفق التى أراها بعين نصف مغمضة بفعل الشمس والملح العالق برموشى، ويطن فى أذنى مختلطا بصوت البحر، حالة خيالية أثارتها قراءتى لرواية «حين اختفى النحل» للكاتبة النرويجية مايا لوندِه، ترجمة علاء الدين أبوزينة لدار «المنى».
الرواية التى تصور لنا ديستوبيا لحياة البشر دون عسل، لست بصدد عرض الرواية، ولكن يجب أن أقول إنها دفعتنى للبحث والقراءة عن هذه الحشرة، وأجمل ما عرفته أن التسمية الصحيحة لها هى «نحل العسل»، لأن النحل فصيلة من الحشرات تضم عشرات الآلاف من الأنواع المختلفة فى الشكل والمهام وحتى تفضيل النباتات، وما يقرب من تسعة أنواع فقط منها تنتج العسل، وتقوم الفصائل الأخرى بمهام تلقيح فقط.
شغلتنى معرفة التراتبية داخل خلية النحل، فهى باختصار ثلاث فئات، لا تخرج من البيضة ذاتها، فالبيضة المخصبة تنتج النحلة الملكة والنحلة الشغالة، وغير المخصبة يفقس منها الذكر، تعقيد بيولوجى مُثير للاهتمام، تعيش الملكة أعواما قد تصل إلى ثلاثة وأحيانا أكثر بقليل وفقا لنمط تربيتها، والشغالة تختلف أعمارها بين فصلى الصيف والشتاء، ولكن لا تتجاوز حياتها العام الواحد، والذكر قد يصل إلى أربعة أشهر.
تتولى أسراب الشغالات إطعام الخلية بأكملها، والاهتمام بصغار النحل وتدريبهم، والملكة تبيض وتُربى الملكات الجديدات، والذكور لا يخرجون من الخلية إلا مرة واحدة لتلبية نداء الملكة للتزاوج، منهم من يموت لقاء التزاوج، ومن يبقى على قيد الحياة، لا تسمح الشغالات بإدخالهم مرة أخرى، لأن مهمتهم قد انقضت، وصاروا عالة على الخلية.
والمحصلة النهائية أن الكل فى خدمة الخلية وليس الملكة ذاتها، التى تُستبدل بملكة جديدة أصغر فى السن دُرِّبت على يد الملكة الأم، ولكن لا يعنى هذا موت الكبيرة بالضرورة، لأنها عادة ترحل برفقة قطيع من الخلية وتؤسس خلية جديدة، وهكذا تضمن تناسل أكبر عدد ممكن من الخلايا، ثم تموت بعد أن أنجزت كثيرا لأبناء جنسها.
عالم جاف ومخيف أقرب إلى النهاية يُحذر منه العلماء والباحثون حال اختفاء النحل، ويتبنى عديد من الدول مشاريع ضخمة للحفاظ على حياة هذه الحشرة والحد من تراجع أعدادها، تأخذنا الرواية إلى عالم لم تمُت فيه الملكة، ولم يتخلَّ الذكور عن وظيفتهم، بل هجرت الشغالات الخلايا، وتركت الملكة وصغار البيض والذكور بمفردهم، فماتوا جوعا، وتدريجيا اختفت الأحياء المختلفة من الكوكب، ومن بقى حيّا من البشر يصارع من أجل البقاء دون أن يضطر للتغذى على لحم أخيه.
• • •
فى هذه الأيام التى قضيتها على الشاطئ، أستمتع بالشمس، و«أبلبط» ــ هذا هو الوصف الدقيق لما أفعله ولا يجوز تسميته بالسباحة ــ وأقرأ الرواية الممتعة، وأمارس المزيد من الأنشطة التى تعيد شحن البهجة ومرتبطة أساسا بالبحر، اعترضنى مشهد ليس بجديد على عينى، ولكن على الرغم من تكراره لم أستطع يوما استساغته، الخادمة التى ترافق أسرة أو حتى فردا واحدا، تحمل حقيبة أو لا شىء أحيانا.
الخادمة المنزلية فى مصر لم تكن حكرا على أبناء الطبقات الغنية حتى وقت قريب، وإنما شكَّلت أحيانا فردا من الأسرة فى بعض الطبقات، لم أنشأ فى أسرة لديها مثل هذه الخبرة، ولكن تعرفت عليها من خلال تجارب بعض الأصدقاء المحيطين، كانت الخادمة أقرب إلى الشقيقة المتبناة التى تتولى المهام الصعبة، تأكل مما طهته للمنزل، وتحتسى كوب الشاى فى العصارى، وتشاهد التلفزيون مساء برفقتهم، وتحصل على إجازات تسمح لها بزيارة أسرتها إن كان لديها من تعود لهم، وغيرها من الممارسات التى أرى أنها حقوق واجبة وليست هبة، نظير ما يوفره وجودها المهم فى المنزل لمخدوميها من الوقت والراحة.
بالتأكيد لم تكن هذه القاعدة فى التعامل مع الخادمة، ولكن موضة استعراضها على الشواطئ مُثيرة للحزن والألم، هذه الموضة لا تختص بها مصر وحدها، رأيتها فى دولة عربية زرتها عدة مرات، وسمعت من أصدقائى العرب عنها، حيث تجلس الخادمة فى السيارة لحين أن تطلبها سيدتها.
التعميم جهل لذلك يمكننى استيعاب وجود الخادمة على الشاطئ برفقة كبار السن أو الأطفال، ولكن لا يبدو لى وجود الخادمة فى معظم الحالات التى رأيتها مُلحّة وضروريّة، خاصة فى هذه الشواطئ التى توفر عمالة بالأساس تُقدم الخدمات كافة، ما عدا أن يُمسك لك أحدهم المنشفة، وهى المهمة التى تتولاها الخادمة التى تجلس على الكرسى وتركض لتجفيف أجساد البالغين الأصحاء العاجزين فى الوقت ذاته عن القيام بأبسط المهام الشخصية لذواتهم.
الخدمات شديدة البساطة التى لا تبرر وجود الخادمة، تجلس لتراقب الحياة دون أن يكون لديها الحق فى لمسها، لا تمارس شيئا سوى تحديق إلى الأفق، أتمشى وأجمع الصدف على الشاطئ، وأرى تلك السيدة الجميلة على الكرسى البعيد، تراقب البحر وتعد الأمواج، وربما تتساءل هل المياه دافئة أم باردة، ولن تختبرها بنفسها حتى.
من الجنون أن نُسقط مشاعرنا الإنسانية على حياة وسلوك الحيوانات والحشرات، ولكن يمكن مراقبتها والتعلم منها، وتعديل مسار بعض أفكارنا، أضحكنى تخيل ملكة النحل تخرج من الخلية وخلفها سرب من الشغالات يحملن لها المناشف والشباشب وغيرها من المتعلقات الملكية، وينتظرن بعيدا محرومات من رحيق الأزهار، حتى تحصل العروس على اللون البرونزى قبل موسم التزاوج.
كارولين كامل صحفية مصرية
التعليقات