أمن الطاقة و«كعب أخيل» التركى - بشير عبد الفتاح - بوابة الشروق
الجمعة 19 أبريل 2024 4:24 ص القاهرة القاهرة 24°

احدث مقالات الكاتب

شارك برأيك

هل تؤيد دعوات مقاطعة بعض المطاعم التي ثبت دعمها لجنود الاحتلال؟

أمن الطاقة و«كعب أخيل» التركى

نشر فى : الإثنين 15 يونيو 2020 - 8:55 م | آخر تحديث : الإثنين 15 يونيو 2020 - 8:55 م

بالغ التعقيد ذلك الوضع الذى تكابده تركيا الإردوغانية لجهة سياسات الطاقة. فبينما تعانى فقرا مدقعا فى مصادرها الهيدروكربونية كالنفط والغاز والفحم، فى الوقت الذى تصارع مشاريعها الطموحة لولوج عصر الطاقة المتجددة تعثرا قاصما، يعترى الأتراك نهم طاقوى محموم توسلا للحاق بركب الدول الصناعية وتلبية لأطماع توسيع النفوذ وتعزيز المكانة، حتى أضحت بلادهم بالترتيب الرابع عشر عالميا والثالث أوروبيا من حيث استهلاك الطاقة، كما اضطرت إلى لزوم الاستيراد من الخارج لتأمين 99 %من ضروريات الغاز الطبيعى والمسال ونحو 93 %من احتياجاتها النفطية، بما يرهق موازنتها السنوية بزهاء 50 مليار دولار، ويثقل كاهل قطاع الطاقة بديون تناهز 70 مليارا آخرين، جراء اقتراض الشركات التركية مليارات الدولارات لضخها بمشروعات طموحة لتوليد وتوزيع الطاقة، فيما عجزت عن سدادها إثر انهيار سعر الليرة، وتواضع عوائد تلك الاستثمارات، بالتزامن مع انكماش أسعار النفط والغاز عالميا على وقع جائحة كورونا.
وفى خضم مساعيها الحثيثة لتعظيم دورها الإقليمى، أولت حكومة حزب العدالة والتنمية اهتماما جما لمفهوم «أمن الطاقة»، إذ بلورت الوثيقة التركية للأمن القومى أو «الكتاب الأحمر» خططا لضمان الأمن الاقتصادى تتيح التماس السبل الكفيلة بمعالجة الخلل المروع فى معادلة أمن الطاقة عبر المضى قدما فى مسارات خمسة متوازية. أولها، تنشيط جهود إنتاج الطاقة محليا من خلال التوسع فى مشاريع البحث والحفر والتنقيب عن النفط والغاز الطبيعى باتساع أراضى البلاد ومياهها، حتى تجاوز حجم الاستثمارات بهذا المجال عشرة أضعاف ما كان عليه عام 2002، حسب وزارة الطاقة والموارد الطبيعية التركية. ومن أمام خارطة تبرز 462 ألف كيلومترا مربعا يعتبرها حدودا بحرية لبلاده، أعاد إردوغان فى سبتمبر الماضى إطلاق مشروع «الوطن الأزرق»، الذى يستبيح بموجبه ثروات البحار المحيطة ببلاده، كالأسود وقزوين والمتوسط والأحمر وإيجه، وتزامنا مع إحياء ذكرى فتح القسطنطينية بإبحار سفينة التنقيب «فاتح» لتدشين أعمال التنقيب بالبحر الأسود، مطلع الشهر الجارى، جدد إردوغان عزم بلاده حماية أمن طاقتها على أراضيها، وبامتداد حدودها البحرية فى جميع الاتجاهات.
وبينما يرنو المسار الثانى إلى تقليص الواردات من الطاقة عبر تبنى وزارة النفط التركية مشروعا نموذجيا لإنتاج نفط صناعى بديل من خلال تحويل النفايات إلى وقود، فى خطوة يأمل الأتراك أن توفر لخزينتهم مليارى دولار سنويا، يتجسد المسار الثالث فى العمل على تنويع الواردات التركية من النفط والغاز بحيث لا تنحصر فى دول كالعراق وإيران وروسيا وأذربيجان والكويت والسعودية، إذ تم التعاقد مع دول أخرى كالجزائر وقطر، فيما يتأتى المسار الرابع فى السعى الحثيث لتحويل تركيا من دولة مستوردة لمختلف مصادر الطاقة، إلى ممر جيواستراتيجى آمن لتخزينها ونقلها، عبر تهيئة أراضيها ومياهها لمرور خطوط نقل النفط والغاز القادمة من مناطق الانتاج الغزير فى روسيا ودول القوقاز وبحر قزوين وشرق المتوسط إلى مراكز الاستهلاك فى القارة العجوز، بما يتيح لأنقرة تلبية احتياجاتها المتنامية من الطاقة وتعزيز مكانتها الجيواستراتيجية عالميا.
أما المسار الخامس، فانصرف إلى التوسع فى مشاريع الحفر والتنقيب عن النفط والغاز خارج البلاد برا وبحرا، لتنويع روافد إمدادها بمصادر الطاقة، عبر التغلغل فى الدول الغنية بها والتى تعانى عدم الاستقرار كليبيا وسوريا والصومال واليمن، بينما تتمتع الأذرع الإخوانية الموالية لتركيا بنفوذ لافت فى أرجائها. فبموازاة مساعيه لإحياء مشروع «الوطن الأزرق»، لم يتوان إردوغان فى التسلل إلى المناطق الرخوة باليمن، بتنسيق إيرانى، وتمويل قطرى، وإسناد من مرتزقة سوريين، ودعم من حزب الإصلاح الإخوانى، عساه يحظى بشىء من الموارد النفطية والغازية الواعدة هناك. وفى سوريا، التى ما عاد يسوق لمزاعم مكافحة التهديد الإرهابى المنبعث منها بعدما عرج إلى المساومة السافرة على نفطها، مضى إردوغان فى محاولاته لاستثمار تنافس موسكو وواشنطن هناك استجداءً لدعمهما فى محاصرة وتقويض الأكراد، الذين يسيطرون على 75 % من آبار النفط، توطئة لتبادل إدارتها أو تقاسم عوائدها معهما، بذريعة تمويل عمليات إعادة إعمار سوريا وتوطين اللاجئين بمنطقة آمنة فى شمالها.
وفى ليبيا، العائمة فوق أكبر احتياطيات نفطية مثبتة فى القارة السمراء، يسيل لها اللعاب التركى منذ ما قبل العام 2011، عمد إردوغان إلى تسويق الفزاعة الروسية توخيا لاستجداء مباركة واشنطن لتدخلاته العسكرية بها وتفهم مطامعه بثرواتها النفطية والغازية، وتلهفه لتنمية الاستثمارات التركية بليبيا والتحكم فى خط الغاز الأخضر الذى يضخ غازها إلى إيطاليا، علاوة على توسيع الحدود البحرية التركية بالبحر المتوسط والتنقيب بالمناطق الاقتصادية الليبية، بموجب مذكرة التفاهم التى وقعها مع السراج نهاية نوفمبر الماضى، والتى ينتوى تفعيلها بحلول الشهر المقبل، تزامنا مع مساعيه لتقويض مبادرة القاهرة للتسوية السلمية وتحريض حكومة الوفاق على مواصلة القتال بغية احتلال الهلال النفطى ومدينة سرت، التى يطمع فى اقتناص شىء من احتياطياتها النفطية والغازية الوفيرة.
أما الصومال، التى يتفاقم التموضع التركى بها منذ زيارته لها عام 2011 وتقديمه مساعدات وضخ استثمارات، فقد أعلن إردوغان، فى يناير الماضى، أنها دعت تركيا إلى التنقيب عن النفط فى المناطق البحرية المتنازع عليها بينها وبين كينيا، مبديا عزم بلاده انتهاز تلك الفرصة الثمينة.
غير أن مساعى إردوغان الحثيثة لمعالجة الخلل المزعج والمزمن فى معادلة أمن الطاقة التركى تصطدم بتحديات شتى. ففيما يتصل بمحاولاته المضنية للارتقاء بإنتاج بلاده المحلى من مصادر الطاقة التقليدية والمتجددة، لا تزال غالبية أعمال الحفر والتنقيب عن الوقود الأحفورى مخيبة للآمال، بما فيها تلك التى تتم فى البحر الأسود وشرق المتوسط على نحو غير قانونى مثير للاستياء الإقليمى والدولى. أما عن مشاريع إنتاج الطاقة المتجددة كالرياح والطاقة الشمسية والطاقة الحرارية الأرضية، فلا يزال التقدم فيها بطيئا بسبب تعثر التمويل فى ظل الأزمة الطاحنة التى تعصف بالاقتصاد التركى منذ سنوات، فضلا عن توتر علاقات إردوغان بالدول المشاركة فى تلك المشاريع، بينما لا تزال المحطة النووية الروسية «أك كويو» المزمع إقامتها فى مرسين التركية محاصرة بهواجس شتى، كونها ستعمق التعاون الروسى التركى المريب بمجال الطاقة، إذ سيتم تغذيتها بيورانيوم روسى مخصب، فيما تلاحقها شبهات تتصل بمعايير الأمان النووى.
وعديدة هى العقبات التى تسفه أحلام تركيا للعب دور «دولة العبور أو المركز» لخطوط نقل الطاقة. فبموازاة تعاظم كلفة تأمين تلك الخطوط، التى أبت الاضطرابات السياسية والأمنية الجاثمة على صدر المنطقة إلا وضعها تحت رحمة الاعتداءات والتهديدات المتواصلة، برأسها تطل الارتدادات السلبية لإصرار واشنطن على تقليص اعتماد أمن الطاقة الأوروبى على إمدادات الغاز الروسية، من خلال تقويض خطوط أنابيب نقلها إلى القارة العجوز عبر تركيا، على نحو ما تجلى فى فرض عقوبات أمريكية على المستثمرين والشركات المنخرطة بمشروع أنبوب السيل الشمالى ــ 2.
وإلى جانب تواضع قدرة تركيا على تخزين الطاقة بكميات استراتيجية جراء ضعف بنيتها التحتية بهكذا مجال، تواجه استراتيجيتها لتنويع مصادر استيراد الطاقة تحديا قاسيا مع تعذر استمرارية التدفق الآمن من الروافد الأساسية كإيران والعراق وروسيا تحت وطأة تصادم المصالح والسياسات، وتشعب التوترات، وتدويل الأزمات. فبينما رفضت واشنطن تجديد استثناءات عقوباتها النفطية على طهران والممنوحة لثمانى دول كانت تركيا من بينها، يبقى العراق أسيرا لاستقطاب سياسى حاد، محليا وإقليميا ودوليا، قد لا تهدأ وتيرته إلا بتحرير بغداد من ربقة النفوذ الإيرانى. أما مخطط إردوغان لاعتصار موارد الطاقة بمحيطه الإقليمى القلق عبر التوسع فى أعمال التنقيب المستفز عن الغاز والنفط خارج الأراضى والمياه التركية، فتتربص به عراقيل جسام. ففى حين تتصاعد وتيرة صراع الأجنحة داخل أروقة نظام إردوغان المهترئ، لا يفتأ المجتمع الدولى يقف لمطامعه فى النفط السورى بالمرصاد. فبينما أكد الأكراد عزمهم إجهاض مخططاته، لم تعر موسكو وواشنطن اهتماما لإلحاحه فى تقاسم النفط السورى. وفى ليبيا، التى تترقب مآلات «إعلان القاهرة» بعدما رحب به العالم أجمع، يصر جيشها الوطنى على إنهاء جميع أشكال التموضع التركى على أرضها ومياهها، فيما طفقت بلدان شرق المتوسط ومن ورائها دول الاتحاد الأوروبى تقوض مساعى تركيا لفرض أمر واقع غير قانونى بليبيا أو شرق المتوسط، بينما تهيأ الراعى الأمريكى لكبح جماح وكيله التركى.
وبالنسبة للصومال، التى يواجه التموضع التركى فيها معارضة شعبية شرسة، فيما حذرت مجموعة الأزمات الدولية من عواقب انفراد أنقرة بالتغلغل المغرض فى ربوعها، إذ سيخلف نتائج عكسية ويعيق جهود الإغاثة الدولية، فلم يتخطَّ استدعاء الصوماليين للأتراك ابتغاء مقصدين: أولهما، استرضاؤهم جراء العمليات الإرهابية التى تطال مصالحهم فى مقديشيو. وثانيهما، الاستقواء بهم فى النزاع البحرى مع الجار الكينى حول أول منطقة بحرية غنية بالنفط داخل المياه الإقليمية الصومالية، والتى تتطلع مقديشيو لبسط وتأكيد سيادتها عليها، عبر تخويل الأتراك التنقيب عن النفط فى أحشائها.
ولما كان اصطلاح «كعب أخيل» المستوحى أصلا من الميثولوجيا الإغريقية المتعلقة بالحرب بين الإغريق وطروادة، يشير إلى السهم المسموم الذى أصاب كاحل الفارس المغوار «أخيل» فى معركة طروادة الشهيرة منهيا بذلك أسطورة «المقاتل الخالد الذى لا يقهر»، لتعكف الأدبيات السياسية والثقافية لاحقا على استخدام ذلك الاصطلاح لتوصيف نقطة الضعف التى يمكن أن تشكل مقتلة لشخص ما أو مفسدة لأمر من الأمور، فقد أضحى الخلل الفاحش فى معادلة أمن الطاقة التركى بمثابة «كعب أخيل» أو المنقصة التى تفخخ السياسة التركية، بشقيها الداخلى والخارجى.
فبموازاة تقويض تداعياته الاقتصادية والاجتماعية الخطيرة، الناجمة عن الارتفاع الجنونى المتواصل فى أسعار الكهرباء والمحروقات والسلع والخدمات، لشرعية إردوغان واستنفادها لرصيده السياسى بما ينعكس سلبا على موقفه الانتخابى القلق، حسبما تنبئ أحدث استطلاعات الرأى الموضوعية، يشكل ذلك الخلل ضغطا هائلا على سياساته الإقليمية والدولية، حتى غدت أعمق نزوعا إلى العسكرة، وأشد جنوحا للصدام، وأكثر شغفا بالتدخل فى شئون الدول الأخرى، بما تنوء كلفته المتعاظمة بكواهل الأتراك، حكومة وشعبا، إلى الحد الذى تجلت أبرز مردوداته فى اشتداد وطأة أزمتهم الاقتصادية، وتفاقم عزلتهم الإقليمية والدولية، وتواصل إخفاقهم، منذ العام 2005 إلى ما شاء الله، فى إقناع المفوضية الأوروبية بالموافقة على فتح الفصل التفاوضى المتعلق بالطاقة، بحلول العام 2023، ضمن سياق المفاوضات العبثية المعنية بعروج أنقرة المستعصى إلى الفردوس الأوروبى.

التعليقات